للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ملك الشام، من الطبقة الأولى، وكان لقبه مجد الدين، سلطان الأمراء، سيف أمير المؤمنين، مَلَكَ بلاد الشام صُلحاً وعنوةً، وفرع إذ عَصَمَ عواصمها من العز ذروة، ونال بملكه إياها وملكه لها حُظوة، وأوثق للمتمسكين به من عدله عُروة، وكان منصور الرأي والراية، منتهياً في اكتساب المحامد إلى أقصى الغاية، أبو المكارم ككُنيته، إسعاف الآمل من مُنيتِه، مُسلمٌ كاسمه، زاده الله بَسْطَةً في علمه وجسمه، جسيم الأيادي، رحيب النادي، مدحه ابن حَيّوس في آخر عمره فأقطعه الموصل، ولم يلبث ابن حيوس بعدها إلا ستة أشهر وإلى جوار الله انتقل، سمعت أنه لما قصده بقصيدته قيل لشرف الدولة: كان رسمه على بني صالح ألف دينار عن كل قصيدة فقال: همتي تسمو إلى أن أزيد على عطاياهم فقال له وزيره: شيخ قد بلغ القبر، واستوفى العمر، فالصواب أن تُقطِعه الموصل، ليسيرَ الذكر فيه ويحصل، فلما أُقطع لم يتهنَّ بالإقطاع، ولم يعش إلى أوان الارتفاع. طالعت ديوان ابن حيوس فوجدت له في شرف الدولة قصيدة يمدحه بها حين فتح حلب وعلّقتُ منها حيث استحسنتها:

ما أدرك الطَّلِبات مِثلُ مُصَمِّمٍ ... إنْ أقدمتْ أعداؤه لم يُحْجِمِ

تَرَكَ الهُوَيْنا للضعيفِ مَطِيّةً ... مَن بَطْشُه كقِراه ليس بمُعْتِمِ

إن همَّ لم يُلْمِمْ لعَينَيْه كَرىً ... أو سِيلَ لم يَلْؤُم ولم يَتَلَوَّمِ

أَحْرَزْتَ ما أَعْيَا الملوكَ مُضارِباً ... غِيَرَ الحوادثِ واحتمال المَغْرَمِ

وَلَقْدْ تحَقَّقَتِ العَواصِمُ أنّها ... إنْ لم تَحُزْ أقطارَها لم تُعْصَمِ

ومنها:

إنَّ الرَّعايا في جِوارِك أُومِنَتْ ... كَيْدَ الغَشومِ وفَتْكَةَ المُتَغَشْرِمِ

لا يشكوُنَّ إليك نائبةً سِوى ... تقصيرِهِمْ عن شُكرِ هذي الأنْعُمِ

فالأمنُ للمُرْتاعِ والإنعامِ للباغي النَّدى والعَدلُ للمُتَظَلِّمِ

لا الظَّبْيةُ الغَيْداءُ تخشى القَسْوَرَ الضاري ولا الذِّمِّيُّ حَيْفَ المُسْلِمِ

قُدتَ الجيوشَ بصدقِ بأسك تقتدي ... وبها الفِجاجُ إلى مُرادِك تَرْتَمي

فَتَضَمَّنَتْ أبطالُها إبْطِالَها ... خُدَعَ المُنى وتوَهُّمَ المُتوَهِّمِ

والخيلُ يَحْمِلْنَ المَنايا والمُنى ... مِن كلِّ سَلْهَبةٍ وأجْرَدَ شَيْظَمِ

كم حُجِّلَتْ بدَمِ الطُّغاةِ وأُعجِلَتْ ... عن نهضةٍ في مُسْرِجِ أو مُلْجِمِ

علَّمْتموها الصبرَ فهي كليمةٌ ... تَغْشَى الوَغى وكأنها لم تُكْلَمِ

أَقْدَمتَ أمنعَ مُقْدَمٍ، وغَنِمْتَ أوْ ... في مَغْنَمٍ، وقَدِمْتَ أَسْعَدَ مَقْدَمِ

ومنها:

ولقد جمعتَ فضائلاً ما اسْتَجْمَعَتْ ... يفنى الزمان وذكرُها لم يَهْرَمِ

كرماً يُبيح حِمى الغِنى ومآثراً ... وُضُحاً تُبيحُ بَلاغةً للمُفْحِمِ

في صِدقِ قولِكَ تبتدي وإلى فَعا ... لِكَ تنتهي، وإليك أَجْمَعُ تنتمي

مِثلُ الكلام تفَرَّقَتْ أجزاؤُه ... فِرَقاً وتجمعُه حروفُ المُعجَمِ

ومنها:

وأراكَ تَعْلُو قائِلاً أو صائِلاً ... بقِرا سَريرٍ أو سَراةِ مُطَهَّمِ

وَهِيَ النباهةُ فُرصةُ العَذْبِ الجَنا ... لا فُرصةُ المُتَهوِّرِ المُتهَكِّمِ

وإذا جرى الأمجادُ برَّزَ سابقاً ... خُلُقُ الكرام تخَلُّقُ المُتَكَرِّمِ

كم فِضْتَ إنعاماً وخُضْتَ مَخاوِفاً ... ما هَوْلُها لولاكَ بالمُتَجَشِّمِ

مُسْتَنْقِذاً من كُرْبَةٍ، أو مانِحاً ... في لَزْبَةٍ، أو صافحاً عن مُجرمِ

في يَوْمِ قارٍ رايةٌ لك فهَّمَتْ ... مِن قادةِ الأتراكِ مَن لم يَفْهَمِ

لمّا تقاصَرَتِ الصَّوارمُ والخُطى ... حَذَرَ البَوارِ وَثَبْتَ وِثْبَةَ ضَيْغَمِ

في عُصبةٍ كَعْبِيَّةٍ تركوا القَنا ... مُتَعَوِّضين بكُل عَضْبٍ مِخْذَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>