للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويختلسها كرور الأنفاس واللحظات، وتنتهبها أيدي الحوادث والآفات، لصوص الفناء لا يمنعها تشييد الفناء، تظنُّك في حصن من طوارق القدر، وهو يجري بك في طرق الحوادث والغِيَر، معاول الساعات تعمل في هدم سور عمرك، كلّ نفسٍ ثُلْمةٌ، وكلّ خَطْرَةٍ فتحة، يدخل منها عدوُّ الردى ولصُّ الفناء، على خزانة جوهر حياتك، وأنت لاهٍ عن ذهاب ذاتك بلذّاتك، الدنيا غابة، أهلها ليوثٌ وثّابة، من صحا عقله من سُكر هواه وجهله، احترق بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه، وتنكَّرتْ صورة حاله في عينه، لا تضع قلم فهمك وتأمُّلك عن يد عقلك، انقُل به إلى لوح روحك أمثلةَ المعارف والفضائل، من ألواح العبر والدلائل، المعرفة تملأ القلب مهابةً ومخافة، والعين عبرة وعَبرة، والوجه حَياءً وخَجلة، والصدرَ خشوعاً وحُرمة، والجوارحَ استكانةً وذلّةً، وطاعةً وخدمة، واللسانَ ذِكراً وحمداً، والسمع إصغاءً وتفهُّماً، والخواطرَ في موقف المناجاة خموداً والوساوس اضمحلالاً، الجهلُ ظُلمةُ ظِلِّ الطبع، الخواصّ يشربون من معين المعاني، والعوامّ من وسخ الأواني، إن قعدتَ على رأس المعدن تنتظر خروج جواهره إليك من غير استخراج، فداءُ جهلك مُعضلٌ ماله من علاج، لا تُنال حلاوة الظفر، إلاّ بعد مرارة الخطر، يا غافل، قعدتَ على الساحل تلتقط من حَصَيَاته، وتلهج بأصداف حيواناته، وتقنع بزبده للسلامة من خطره، السواحل للنِّسوان والأطفال، واللُّجج للرجال والأبطال، السواحل لطُلاّب سلامة المباني، واللُّجج لطُلاّب سلامة المعاني، البحر للصوَر غَرَق، وللمعاني نجاة، غَوْصُ الهمم والبصائر في طلب هذه الجواهر، عروجٌ وصعود، في صورة نزول وهبوط، ما عرفتَ من هذا البحر غير ملوحة مائه، واضطراب أمواجه، ودواعي أهوائه، ولا رأيت منه غير زبدِه وجُفائه، في أطرافه وأرجائه، وكلُّها إنّما هي أستارٌ وحجُبٌ على نفائس جواهره، حُجِبَتْ بها لعزّتها، لكيلا ينالها غيرُ أهلها، لولا غوّاص الفطرة النيِّرة عليها، ما ظهر شرفها، ولا وصل أحدٌ إليها، للغوّاص حذرٌ على صورته، وطمأنينة إلى الظفر بمقصوده، البحر الأُجاج تُستخرَج منه حِلية الأجسام، والعذبُ الفرات تستخرج منه حِلية الأفهام، إذا هاب الغوّاصُ هول بحره، لم يظفر بجوهره ودره، الوردُ يزحم الشوك في طريقه، فإذا ظهر وخرج من زحمته، دعا بلسان حُسنه وجماله، وإشارة خاصيّته وكماله، إلى فصله عنه وإبعاده منه، كدلك وردة الروح العارفة إذا فتحت عين معرفتها، فرأت أشواك المنشأ حولها، وأدغال الطِّباع مُكتنفةً بها، انجذبت بشرف ذاتها عنها، واجتهدت في الخلاص منها، البدن مجموع أعضاءٍ وقوى، والنفس مجموع حظوظ ومُنى، والقلبُ مجموع معارف وتقوى، الصدق رَوْنَق وَجْهِ القصد، وصفاء ماء مُحيّا الهمّة، في الإقبال على الربوبية، سبحان مُوسِّع عَرَصَة الزمان، لانتشار نَسْلِ الحِدْثان، وإظهار مُخْفِيات العيب إلى العِيان، الأقضية والأقدار حوامل، تضع في وعاء الكون حمل الحوادث

<<  <  ج: ص:  >  >>