للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا وَرِمَ تضيَّق الشدُّ وتزيَّد الألم، لزيادة القدم، فإذا انهزل العضو استرخى الشدّ، واتسع القيد لنحافة القدم، ومع الانضمار والانهزال، يتيسَّر الانحلال والخلاص والانفصال، أما لك في سَفْرَة جهلك إلى وطن عقلك إياب، أما لغربة قلبك في بلاد طبعك انقلاب، نعوذ بالله من نفسٍ وهي نظام مصالحها، وغشَّى ظلامُ أهوائها وجوه آرائها، في الشيب نزل نذيرُ الفناء بساحتك، وأنت مع راحك وراحتك، خواطر القلوب، بُروق غمائم الغيوب، الأفعال تراجم هِمَم الرجال، تُنبِّئ عن وصف النقص والكمال، إذا صحّت الأبدان، ونَظُفَت من الأدران، زانَتْها الملابس الحِسان، وإذا صحَّت العقول من عِلل الهوى، وأمراض حبّ الدنيا، زانَها العلم والتقوى، رحم الله عبداً خطر بباله، خطرُ مآله، فأصلح خلل أعماله، قبل عرضه وسؤاله، القلوب تنقبِض عن البخيل، لانقباض رغبته في الثواب الجزيل، والثناء الجميل، إلهي أسألك قلباً حُرّاً لا تستعبده الأماني، ولا يشغله عن طلب الباقي طلب الفاني، وعزماً في الخير ماضياً لا تقطعه عوارض الفُتور والتَّواني، من علم أنّ المركّبات في ذواتها ذواتُ نهاية، لم يلق في رُوعه رَوْعَاً من الموت اللهم اكفني غائلة إهمالي، واغتراري بطول إمهالي، قِني آفة الفُتور، والنقص والقُصور، في أقوالي وأعمالي، بحالي ومآلي، أَرِحْني من كلَف احتيالي، لنيل أربي وآمالي، سلِّمْني من غاوي وهمي وخداع خيالي، إلهي رَوِّ روحي من منبع القُدْس، نعِّمْها في رياض الأُنس، ألهِمها وحشةً من الإنس، طوبى لمن لمع في طَرْفِ فِطرته، قبسُ أُنسِه بربّه، فأفرده عما سواه به، فترنّم حادي وقته، وترجم عن صفته:

مَن زَكَتْ نفسُه رأى الزُّهد في الدنيا فيا طِيبَ أَنْفُسِ الزُّهّادِ

أفردتْهُ النَّفسُ النَّفيسةُ في النا ... سِ فيا بُعدَ هِمّة الافرادِ

أَكَلَتْه الفضائل الغُرُّ حتى ... ذابَ ذَوْبَ النُّضار في الإيقادِ

كلّما ازدادتِ الذُّبالة ضَوْءَا ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ

اللهم أحيِنا بروح رضاك عنا، من موت سخطك علينا، إذا استغنيتَ عن الكرام فأنت الكريم، وإذا رجوتَ اللئام فأنت اللئيم، من بلغ مقام التعريف، علم أنّ سرّ التكليف، للتهذيب والتشريف، لا للتعذيب والتعنيف، الزمان كجُبّ الصبّاغ، يُبدي كل أوان، مُختلِفات ألوان، من عزٍّ وهوان، وأفراح وأحزان، وخشونة ولِيان:

إنّ الزمان وإن ألا ... نَ لأهله لمُخاشنُ

تجري به المُتحركا ... تُ كأنهن سواكنُ

إذا نزل على القلب الكسير إكسير التقوى، صفا من كدر الهوى، وارتقى في درجات الهدى، ونال منازل الفوز والزُّلفى، إذا استعدّ جوهرُ القلب، لنزول إكسير نظر الربّ، قَلَبَه من الوصف البهيميّ إلى الملَكيّ، ترديد المواعظ على الفهوم، كتجديد المراهم على الكلوم، الفهوم إذا أُهملت دَثَرَتْ، والجروح إذا تُركت نغَّرَت، حار بعض الطالبين في ليل طلبه، والتبس مسلكه المُفضي به إلى ربه، فرصد نجوم فهومه، وطوالع خواطر علومه، وأوقد مصابيح قرائحه، وسُرُج أفكاره وبصائره، فبينا هو في سيره القاصر، وضوئه الضعيف المتقاصر، إذ بدا بدرُ الدِّراية، من أُفق العناية، بمبادئ أنوار الهداية، فهجر النجمَ والمصباح، وانتظر الإصباح، وارتقب السَّنا الوضّاح، فأسفر له صُبح الأزل، من وراء سدفة ليل الحدث، فتلألأت مرآة استعداده، وتشعشعت مِشكاة فؤاده، بأنوار مُراده، فانجاب عنه حجاب الحوادث، وغاب خيال كلّ كائنٍ حادث، فرمق جَناب الأزليّة، وسمق بهمّته العُلْويّة، إلى قُلّة الرَّبوة الملكوتية، دار القرار، لقلوب الأبرار، والمَعين السَّلْسال في مُروج الوجود المُطلق، فوقع في عين اليقين، وشرب مَعين النعيم، فترنّم طرباً بما نال، وتمثّل تعجُّباً وقال:

مَن كانَ في ظلماءِ ليلٍ سارياً ... رَصَدَ النجومَ وأوْقدَ المِصباحا

حتى إذا ما البدرُ أشرق نورُه ... ترك السِّراج وراقبَ الإصباحا

حتى إذا انجابَ الظلامُ جميعُه ... ورأى الضياءَ بأُفْقِه قد لاحا

هجرَ المسارِجَ والكواكب كلَّها ... والبدرَ وارتقبَ السَّنا الوضّاحا

<<  <  ج: ص:  >  >>