وهل تُجيبُ أَعْظُمٌ بالِيةٌ ... أو أَرْسُمٌ دارِسةٌ مَن يَنْشُدُ
ليس بها إلاّ بقايا مُهجَتي ... وذاك إلاّ حجَرٌ أو وَتِدُ
كأنني بين الطُّلول واقِفاً ... أَنْدُبُهُنَّ الأشعثُ المُقَلّدُ
كأنّما أنواؤها خَلاخِلٌ ... والمُثَّلُ السُّفْعُ حَمامٌ رُكَّدُ
صاحَ الغُرابُ فكما تحمَّلوا ... مَشى بها كأنه مُقَيَّدُ
يَحْجِلُ في آثارهمْ بَعْدَهُمُ ... بادي السِّمات أَبْقَعٌ وأسْوَدُ
لبِئْسَ ما اعْتاضَتْ وكانتْ قبلَ ذا ... تَرْتَعُ فيها ظَبَيَاتٌ خُرَّدُ
لَيْتَ المطايا للنَّوى ما خُلِقَتْ ... ولا حَدا من الحُداةِ أحَدُ
رُغاؤُها وَحَدْوهم ما اجتمعا ... للصَّبِّ إلاّ وَشَجَاه الكمَدُ
تقاسَموا يومَ الوداع كَبِدي ... فليس لي منذ توَلَّوْا كَبِدُ
عن الجُفونِ رحلوا، وفي الحَشا ... تقَيَّلوا، وماءَ عَيْنِي ورَدوا
فَأَدْمُعي مَسْفُوحةٌ، وكَبِدي ... مَقْرُوحةٌ، وغُلَّتي لا تَبْرُدُ
وَصَبْوَتي دائمة، ومُقلتي ... دامِية، وَنَوْمُها مُشَرَّدُ
أَرْعَى السُّها والفَرْقَدَيْنِ قائِلاً ... ليتَ السُّها عَنَّ عليه الفَرْقَدُ
تلك بدورٌ في خُدورٍ غَرَبَتْ ... لا بل شُموسٌ فالظلام سَرْمَدُ
تيَمَّني منهم غزالٌ أَغْيَدُ ... يا حبّذا ذاك الغزال الأغْيَدُ
حُسامه مُجَرَّدٌ، وَصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ، وخَدُّه مُوَرَّدُ
وصُدْغه فوق احمرار خَدِّه ... مُعَقْرَب مُبَلْبلٌ مُجَعَّد
كأنّما نَكْهَتُه وَريقُه ... مِسكٌ وخَمرٌ والثنايا بَرَدُ
له قَوامٌ كقَضيبِ بانَةٍ ... يهتزُّ نَضْرَاً ليس فيه أَوَدُ
يُقعِده عند القيام رِدفُه ... وفي الحَشا منه المُقيمُ المُقعِدُ
أَيْقَنْتُ لمّا أنْ حَدا الحادي بهم ... ولم أمُتْ أنَّ فؤادي جَلْمَدُ
كنتُ على القُرْبِ كئيباً مُغْرَماً ... صَبّاً فما ظنُّكَ بي إنْ بَعُدوا
لولا الضَّنا جَحَدْتُ وَجْدِي بهِمُ ... لكنْ نُحولي بالغَرام يَشْهَدُ
همُ توَلَّوْا بالفؤادِ والحَشا ... فأين صَبْرِي بَعْدَهمْ والجلَدُ
همُ الحياة أَعْرَقوا أم أَشْأَموا ... أم أَتْهَموا أم أَيْمَنوا أم أَنْجَدوا
ليَهْنِهِمْ طِيبُ الكَرى فإنّه ... حظُّهمُ وحظُّ عَيْنِي السَّهَدُ
للهِ ما أَجْوَرَ حُكّامَ الهوى ... ليس لمن يُظلَمُ فيهم مُسْعِدُ
ولا على المُتلِفِ غُرْماً بينهم ... ولا على القاتل عَمْدَاً قَوَدُ
وله أيضاً:
واللهِ لو كانت الدنيا بأجْمعها ... تُبْقي علينا ويأتي رِزقُها رَغَدَا
ما كان مِن حقِّ حُرٍّ أن يَذِلَّ لها ... فكيف وهيَ مَتاعٌ يَضْمَحِلُّ غدا
ثم وقع إليّ قطعة كبيرة من شعره ورسائله، وذلك بمصر، فلمحتها فرأيت فيها كل مُلحة، ذكيّة من نشرها بأطيب نفحة، فنسخت منها ما نسخ فخر مُساجليه، ورسخ فضله على مماثليه. فمن ذلك قوله من كلمة كتبها إلى كمال الدين الشهرزوري بالموصل مشتملة على معاني أهل التصوّف:
أداروا الهوى صِرْفاً فغادرهم صَرْعَى ... فلمّا صَحَوْا من سُكرِهم شَرِبوا الدَّمْعا
وما عَلِموا أنّ الهوى لو تكَلَّفوا ... محَبَّةَ أهليه لصارَ لهم طبعا