ومنها:
تراهُ لما أن غدا روضةً ... أعلَّ جسمي كي أكونَ النسيم
رقيمُ خدٍ نامَ عن ساهرٍ ... ما أَجدرَ النومَ بأَهلِ الرقيم
وله من أخرى:
فهمتُ عن البارق الممطر ... حديثاً ببالكَ لم يَخْطُرِ
يقول سهرتَ فأجرِ الدموعَ ... وإِلا فإنَّكَ لم تسهرِ
ومنها:
فيا عَبْلَةَ الساقِ لا أَشتكي ... إليك سوى وجديَ العَنْتَري
ثم ظفرت بكتاب الزهر الباسم من أوصاف أبي القاسم، وهو بعض القواد بجزية صقلية فاطلعت فيه وأطلعت في فلك الخريدة نجوم معانيه. فأول ما بدأ فيه بوصف الكتاب، كلامٌ أصفى ديمةً من در السحاب، وأوفى قيمةً من در السخاب. فمن ذلك: هذا كتابٌ نظمت فريده في عقد الكرم، وجلوت فرنده في عضب الهمم، واستخلصت بنار الطبع تبره، وشحذت من لسن الذهن نبره، وأنبت في روض الشرف أزاهره؛ وأثبت في سماء العز زواهره، ووسمت عواتق المجد بحمائله، ورقمت دمائث الحمد بخمائله، ناضرة مشرقة اللألاء، بل مشرفة الآلاء. وهذا السيد الأيد وإن عظم سوره، وكبر صوره؛ وشرف نسبه، وظرف نصبه، واجتلى من مجالس الفضل، ومغارس النبل منتدى صدور إيوانها، ومبتدأ سطور ديوانها، فإن مثلي وإياه كراعي سنين عجاف، وداعي مسبتين لا يجاف، طواه إدقاع، وأجراه صفصف قاع، فاحتل بوهد، رهين جهد، ما له بالسحاب وأذيال السحاب من عهد، قد لفته النكباء في شملتها، وأتلفته بتفصيلها وجملتها؛ فلما يبست مراتعه، ويئست مطامعه، أتت أكيلة ليثٍ فسامها، وعنت مخيلة غيثٍ فشامها، وأصاخ ليستمع أين موقعه، وينتجع ما ينفعه، وإذا هو نبتٌن في رمل خبتٍ، قد أرضعته بدرها الأمطار، ورصعته بدرها الأزهار، واندفقت أنهاره، وسجعت أطياره، بما خرق له مخارقٌ جيب الإبداع وانحط به ابن جامعٍ عن درجة الإجماع، فوقع اختياره بما أداه إليه اختباره، على شجرةٍ أصلها في الماء، وفرعها في السماء:
يَصيفُ إلى مُرتقىً مُنْتَقَى ... ويُشْتي إلى مُجْتَلىً مُجْتَنَى
وتأتي على حالتيْ سَوْمها ... لذا بالمَنُونِ وذا بالمُنَى
وهو أيده الله تلك النخلة ذات الظل المديد، والثمر الجديد، من الطلع النضيد، وأنا ذلك الراعي الذي هجر ملأه ووجد كلأه. وسائر الكرام وإن كانوا كنبقة في تلك الحديقة الأنيقة، ففي كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار.
ومنها: والعصر، إن في المصر ملكاً استملك رق المدح، واستهلك المحن بالمنح، نقل الدهر إلى نقش خاتمه، وجعل موطىء كعبه همة كعبه وباهى بنهضة من عمره نهضات عمره، وكن نقى مثار عثيره، ممن يصول كعنتره، وكم استبله في باسه ممن يضحك بإياسه. فما زال مرتع آمالي في ذراه خصيباً، وسهم مطالبي في ثغر النجاح مصيباً، وأماني لا تجد لابن ليلى دونه في بيت نصيب نصيباً.
وإنما لقيت من وعثاء السفر، ولقاء الخطر، وابتغاء الظفر، قبل حلولي بهذه الحضرة النضرة حضرة القائد أبي القاسم الأجل الذي إن ألبس قلمه المداد، عري من الفصاحة قس إياد، وأنطق طرسه الرسائل، أخرس عن الخطابة سحبان وائل. يلزم لديه ابن العميد سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، ويقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب، ونهاية الصابىء أنه بألفاظه صابىء؛ حتى لو انقلب الديوان ديوان شعر، والقرطي أقراط شذر، لكان هو المقرط المعلى والمقرظ المحلى ما أوجب ذاك الشكو الذي دخل بهذا الشك، وجاء بهذا الشكر. فالحمد لله حمداً تقصر الألفاظ عن حصر معانيه، ويعيي النية منتهاه عن قدر وسعها فتعانيه، وصلى الله على محمد وآله ما خفق آل، وحقق الآمال في هذا الحساب مال ومآل.
ومنها في وصف البحر إني لما تسنمت الأمواج في ذات الألواح، وتنسمت الإزعاج من ذات الأرواح، قلت السلامة إما ميلاد ومعاد، أو يوم معاد، وعجبت من حالي، في حلي وترحالي، فتشوقت الوطن والوطر، وكلفت الخاطر وصف ذلك الخطر، فقال:
لو لم يحرَّم على الأيام إِنجادي ... ما واصلتْ بين إِتهامي وإِنجادي
طوراً أسيرُ مع الحياتن في لجج ... وتارةً في الفيافي بين آساد
إما بطائرةٍ في ذا ورازمةٍ ... أو في قتادٍ على هذا وأَقْتاد
والناس كُثْرٌ ولكنْ لا يقدَّرُ لي ... إلا مرافقةُ الملاَّحِ والحادي