وأنشدني زين الدولة الحسين بن الوزير أبي الكرام قال: كتب الصالح ابن رزيك إلى والدي بعد عوده من مصر إلى الشام سنة إحدى وخمسين:
أَحبابَ قلبيَ إن شطَّ المزارُ بكمْ ... فأنكم في صميم القلب سكَّانُ
وإِن رجعتمْ إِلى الأوطانِ إنَّ لكمْ ... صدورَنا عِوَضَ الأَوطانِ أَوطانُ
جاورتمُ غيرنا لما نأتْ بكمُ ... دارٌ وأنتم لنا بالودِّ جيران
وكيف ننساكمُ يوماً لبعدكمُ ... عنا وشخصكمُ للعين إنسان
وأنشدني له:
وإذا تشبُّ النارُ بين أَضالعي ... قابلتُها من أَدمعي بسيول
فأنا الغريقُ بل الحريقُ أموت في ... هذا وذا كذبالة القنديل
وكان قد ذكر عنده بيتاً من نظم عوام بغداد من كان وكان وهو:
النارْ بين ضلوعي ... وأنا غريقْ مدامعي
كأني فتيلة قنديلْ ... أَموتْ حريقْ غريق
فأنشد ابن الحباب أبو المعالي الجليس في المعنى:
هل عاذرٌ إن رمتُ خلعَ عذاري ... في شمِّ سالفةٍ وفثم عِذار
تتآلفُ الأضدادُ فيه ولم تزلْ ... في سالفِ الأيام ذاتَ نِفَارِ
فله من الزفرات لفحُ صواعقٍ ... تُرْدي وبالعبرات سحُّ بحار
كذبالة القنديل قُدِّرَ هُلْكُهَا ... ما بين ماءٍ في الزجاج ونار
فقال المهذب بن الزبير في المعنى:
كأَني وقد فاضتْ سيولُ مدامعي ... فَشَبَّتْ حريقاً في الحَشا والترائب
ذبالةُ قنديلٍ تعومُ بمائها ... وتُشْعَل فيها النارُ من كل جانب
وحدثني أبو الذكاء البعلبكي، وكان رسولاً بمصر، قال: لما جلس الصالح بن رزيك في دست الوزارة نظم هذه الأبيات:
انْظُرْ إلى ذي الدار كمْ ... قد حلَّ ساحَتَها وزيرُ
ولكمْ تبخترَ آمناً ... وَسْطَ الصفوفِ بها أَميرُ
ذهبوا فلا والله ما ... بقيَ الصغيرُ ولا الكبيرُ
ولمثلِ ما صاروا إليه ... من الفناءِ غداً نصيرُ
قال زين الدين الواعظ: عمل فارس المسلمين أخو الصالح له دعوةً في شعبان من السنة التي قتل فيها فعمل هذه الأبيات وسلمها إلي:
أنست بكمْ دهراً فلما ظَعَنْتُمُ ... استَقَرَّتْ بقلبي وَحْشَةٌ للتفرق
وقال:
وأَعجبُ شيءٍ أَنني يومَ بينكمْ ... بقيتُ وقلبي بين جَنْبَيَّ ما بقي
أَرى البعدَ ما بيني وبين أحبتي ... كبُعْدِ المدى ما بين غربٍ ومَشْرِقِ
أَلا جَدِّدي يا نفسُ وجداً وحسرةً ... فهذا فراقٌ بعْدَهُ ليس نلتقي
قال: فلم يبق بعدها لهم اجتماعٌ في مسرة، وقتل في شهر رمضان. قال: ومما نظمه:
يا دهرُ حَسْبُكَ ما فعلتَ بنا ... أَتُرَاكَ تَطْلُبُ عندنا إِحَنَا
كم نَتَّقِيك بكل سابغةٍ ... وسهامُ كيدك تخرق الجُننا
ما تنفعُ الدرع الحصينةُ مَنْ ... عَمَّا قليل يَلْبَسُ الكفنا
كلا ولا الأيام تَقْبَلُ عن ... أَرواحنا رَشْواً ولا ثمنَا
لو بالثُّرَيَّا حلَّ مُعْتَصِمٌ ... منها لكانَ له الثَّرَى وَطَنا
ولقد يهوِّنُ ما أصابكمُ ... فقدُ الحسينِ الطهرِ والحَسَنَا
وبَينهمُ إذ طوَّحَتْ بهمُ ... أيدي زمانهمُ هُنا وهُنا
وأرى الأئمةَ جار دهرهمُ ... في فعله بهمُ فكيف أنا
لي أسوةٌ بهمُ الغداةَ إِذا ... أصبحتُ في الأَجداثِ مُرْتَهَنا
وقال:
يا راكباً ظَهْرَ المعاصي ... أَوَمَا تخافُ من القصاصِ
أَوَمَا ترى أسباب عمرك ... في انتقاضٍ وانتقاصِ
وقال:
يا نائماً في هذه الدنيا ... أما آن انتباهُكْ
المالُ لا يُغْنيك في ال ... أخرى ولا يُنْجِيكَ جاهُكْ
وقال:
مشيبُكَ قد نَضَا صبغَ الشبابِ ... وحلَّ البازُ في وَكْرِ الغُرَابِ
تنامُ ومقلة الحدثانِ يَقْظَى ... وما نابُ النوائبِ عنك نابِ