للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من قرية يقال لها أواني بدجيل. وهي ذات سوق كبير كبلدة كبيرة.

كاتب بارع، عبارته فصيحة. حاسب صانع، جماعته صحيحة. ناظم، ناثر، عالم، شاعر.

إذا أنشأ وشى، ومن كأسه الفهم انتشى. وإذا حرر حبر، وعن الحسن عبر. وإذا سطر سطا بحسام قلمه. وإذا ترسل أرسل برهام كلمه. وإذا نطق فتق ورتق، وكأن نجم الجوزاء بغرر منطقه تمنطق. وإذا سرد درس النثر درس ربع النثرة. وإذا أزهرت زهره ظهر خجل الزهرة. وإذا حلى، حوى القدح المعلى. وإذا نفش فصوص فصوله، هبت قبول قبوله، وإذا بعث كتاباً أتاه رسول رسوله. معرب موجز في نثره. مغرب معجز في شعره.

رسائله متسقة الرسل، وفضائله مغدقة الوبل. ماهر، برهام إبداعه هامر. وحاذق، للضرب باللبن ماذق. عسلي الكلام، أسلي الأقلام، أسدي الإقدام. صوله بالقول، لا بالقوة والحول. من عبارته حميا أوانى عصرت، وألسنة الإطرء على فضله قصرت. غريب في الزمان ليس له ضريب. كلامه سهل ممتنع بديع بعيد قريب.

فأين أنت من راحه واحتساء أقداحه، وقدح زناده؟ فهلم إلى ناديه وناده، تفز باقتباس أنوار أنفاسه، واختلاس آثار أنقاسه، وتصدر من مورده ريان، وتصبح بالاستفادة منه جذلان.

كان شيخاً كبيراً، يفوح منسوجه عبهراً وعبيراً، ويلوح ممزوجه بطراز السجع منيراً. وكانت تلمع شيبته نوراً، قد استبدلت من المسك كافوراً.

رتبه الوزير عون الدين بن هبيرة - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة - في أعماله ب الهمامية وواسط، وأنا نائب الوزير بها - كاتباً معي مستوفياً، فاستسعدت بلقائه وكنت لحقوقه موفياً. فلم يلبث في العمل إلا مدة شهرين، فأصعد إلى بغداد صفر اليدين. وسمعت أن الوزير رتبه في موضعين، وأدركه حين الحين، بعد أن فارقته بسنتين. روح الله روحه، ونور ضريحه.

أنشدني لنفسه ب الهمامية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة:

ما لعينٍ، جنت على القلب، ذَنْبُ ... إنّما يٌرسل الّلحاظَ القلبُ

والهوى قائدُ القلوب. فإنْ سلّ ... طَ جيش الغرام، فالقلب نَهْبُ

أحياة بعدَ التّفرُّق يا قل ... ب؟ فأين الهوى؟ وأين الحبُّ؟

كان دعوى ذاك التَّأوُّه للبَيْ ... نِ، ولم ينصدع لشملك شَعبُ

إنَّ موت العشّاق من ألم الفُرْ ... قة والبَيْن، سُنَّة تستحبُّ

وعلاجُ الهوى، عذاب المحبّي ... نَ. ولكنّه عذاب عَذْبَ

زَوِّدِ الَّطرْفَ نظرةً، أو فمُتْ وَجْ ... داً، فهذا الوادي وذاك الّسِربُ

واسألِ الرَّكْب وقفة، فسعى يُنْ ... جِدُك اللّحظُ إن أجاب الرَّكْبُ

واستعنْ بالدّموع، فالدّمع عون ... لك إنْ ساعد المدامع سكبُ

وتبصَّرْ نحوَ العَقيق جُذَيَا ... تٍ على بُعدها تلوح وتخبو

فبذاك الجوّ الممنَّع أوْطا ... ريَ والقلبُ والهوى والصَّحْبُ

وأنشدني لنفسه، وقال سئلت أن أعمل أبياتاً على هذا الاقتراح فعملت. وهي في غاية اللطف والرقة:

يا صاحبَيَّ اسعِداني ... على الَّلَييْلِ الطُّوَّيِلْ

وعلّلاني بَبرد ... من النَّسيم العُلَّيِلْ

ويا حُداةَ المطايا ... رفقاً علي قليل

في هذه الدار قلبي ... رهنٌ بحّبِ غُزَّيِلْ

أسالَ دمعي، وألْوَى ... عنّي بخَدٍّ أُسَيِّلْ

ما زحته، فرماني ... بسهمٍ طَرْفٍ كُحّيِلْ

بُدَيْرُ تٍمٍّ، تراه ... تحتَ اللِثام هُلَّيِلُ

يَميس مثلَ قَضيب ... من فوق رِدْفٍ ثُقَّيِلْ

وله في مدح الوزير عون الدين تاج الملوك، سيد الوزراء، أبي المظفر يحيى، بن محمد، بن هبيرة ظهير أمير المؤمنين، وذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وأنشدني لنفسه القصيدة بالهمامية:

سرى والليلُ غِربيبْ الإِهابِ ... وفرعُ ظَلامهِ نامي الخِضابِ

فأذكرني ثغوراً من لآَلٍ ... تَبَسَّمُ عن سُلاف من رُضابِ

هي الأحلام كاذبة الأماني ... فكيف أروم صدقاً من كِذابِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>