عذيري من ساحر بيان، وناثر جمان، ومظاهر إبداع وإحسان، ما كفاه أن اعتام الجواهر اعتياما، وجلاها في أبهج مطالعها نثرا ونظاما، حتى حشر الكواكب والافلاك، وجلبها نحوي كتائب من هنا وهناك، وقدماً حمل لواء النباهة، وأعجز دواء البداهة، فكيف بمن نكل حتى عن الروية، ورفض الخطابة رفضا غير ذي مثنوية، وليس الغمر كالنزر، رويدك أبا النصر، فما سميت فتحا لتفتح علينا أبواب المعجزات، ولا مليت سروا لترتقي عنا إلى الأنجم الزاهرات، فتأتي بها قبيلا، وتريد منا أن نسومها كما سمتها قودا وتذليلا، وأنى لنا أن نساجل احتكاما، أو نباسل اقداما، من أقدم حتى على القمرين، وتحكم حتى في انتقال الفرقدين، وقص قوادم النسرين. ثم ورد المجرة وقد تسلسلت غدرانها، وتفتح في حافاتها أقحوانها، وهناك اعتقد التنجيم، وأحمد المراد الكريم، حتى إذا رفع قبابه، ومد ما أحب أطنابه، سئم الدهناء، وصمم المضاء، فاقتحم على العذراء رواقها، وفصم عن الجوزاء نطاقها، وتغلغل في تلك الارجاء، واستباح ما شاء أن يستبيحه من نجوم السماء، ثم ما أقنعه أن بهر بإدلا له، حتى ذعرها بجياد أقواله، وغمرها باطراد سلساله، فله ثم خيل وسيل، لأجلهما شمر عن سوق التوأمين ذيل، وتعلق برجل السفينة سهيل، هنالك سلم المسالم، وأسلم المعارض والمقاوم، فما الأسد وإن لبس الزبرة يلباً، واتخذ الهلال مخلبا، وإنما انتهض تحت صبا أعنته، وقبض على شبا أسنته، وما الشجاع وإن هال مقتحما، وفغر عن الدواهي فما، وقد أطرق مما رآه، وما وجد مساغا يأباه. وما الرامي وقد أقعص عن مرامه، ووجئت لبته بسهامه، أو السماك وقد قطر دفينا، وغودر بذابله طعينا، وما الفوارس وقد جللت سربتها عجاجة، ومسخت حليتها زجاجة، وكذلك قطب زحل، واضطرب المريخ في نار وجده واشتعل، ووجل المشتري فامتقع لونه وضياؤه، وشعشع بالصفرة بياضه ولألاؤه، وتاهت الزهرة بين دل الجمال، وذل الاستبسال، فلذلك ما تتقدم آونة وتتأخر، وتغيب تارة ثم تظهر، وأما عطارد فلاذ بكناسه، ورد بضاعته في أكياسه، وتحجبت الشمس بالغمام، واعتصم بمغربه قمر التمام. هذه حال النجوم معك، فكيف بمن يتعاطى أن يشرع في قول مشرعك، أو يطلع من ثنية فضل مطلعك.
ومنها في وداعه: فخذ السانح من عفوي، وتجاوز لمقتي وصفوي، ثم متعني بفكري فقد رجع فليلا، ودع لي ذهني عسى أن يتودع قليلا، وإني وقد أضله من بينك الشغل الشاغل، وردعه من قربك الظل الزائل، ولا أنس بعدك إلا في تخيل معاهدك، وتذكر مصادرك النبيلة ومواردك، فسر في أمن السلامة محافظا، وتوجه في ضمن الكرامة مشاهدا بالأوهام ملاحظا، رعاك الله في حلك ومرتحلك، وقدمت على السني من متمناك والمرضي من أملك، بمن الله وفضله.
وكتب إليهما الفقيه الحافظ أبو الفضل ابن عياض في ذلك: قد وقفت - أعزكما الله - على بدائعكما الغريبة، ومنازعكما البعيدة القريبة، ورأيت ترقيكما من الزهر إلى الزهر، وتنقلكما من الدراري بعد الدر، فأبحتما حمى النجوم، وقذفتماها من ثواقب افهامكما بالرجوم، وتركتماها بعد الطلاقة ذات وجوم، فحللتما بسيطها غارة شعواء، لها عوت أكلب العواء، هناك افترست الفوارس، ولم تغن عن السماك الداعس، وغودرت النثرة نثارا، وأغشى لألأؤها نقعا مثارا، كأن لكما عندها ثأرا، وأشعرت الشعريان ذعرا، وقطعت إحداهما أواصر الأخرى، فأخذت بالحزم منها العبور، وبدرت خيلكما وسيلكما بالعبور، وحذرت اللحاق عن أن تعوق، عن منحنى العيوق. فخلفت أختها تندب الوفاء، وتجهد جهدها في الاختفاء، وكأن الثريا حين ثر تم بقطينها، اتقتكم بيمينها، فجذذتم بناتها، وبذلتم للخضيب أمانها، فعندها استسهل سهيل الفرار، فأبعد بيمينه القرار، وولى الدبران إثره مدبرا، فذكر البعاد فوقف متحيرا، وعادت العوائد بعراقها وشامها، وألقت الجوزاء الأمان بنطاقها ونظامها، فمهلا أعزكما الله سكنا الدهماء، فقد ذعرتما حتى نجوم السماء، فغادرتماها بين برق وفرق، وغرق أو حرق، فزحزحا في مجدكما قليلا، واجعلا بعدكما للناس إلى البيان سبيلا، فقد أخذتما بآفاق المعالي والبدائع، لكما قمراها والنجوم الطوالع.