فمحا إساءته بها إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره
وذكر أنه كان باشبيلية سنة ثلاث وخمسمائة، ورحل أمير المسلمين عنها فسار ابن أبي الخصال معه، وأخلى بالبلد مجمعه، فكتب إليه يستدعي من كلامه، ما يثبته في ديوانه، وينبته بين زهر بستانه، فكتب إليه الوزير جوابا: الحذر - أعزك الله -، يؤتى من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة، وقد كنت أرضى من ودك، وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك، وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى، فشخصه مقتحم مزدرى، لا سيما بمن لا يجلي ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقيل والقال يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتحفيه وتخترمه أولى به من كشف القناع، والتخلف على منزلة الامتناع، وفي الوقت من فرسان هذا الشأن، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المنازل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرا لا نكرا، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأقران مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وجواهرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استقبلت لمتأخرها متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد إلا أن يعود به جماله، ويحرس بنقصه كماله، وهبه أعزه الله استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في إثباته يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما إخالك ترضاها لي مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستقل ظعينها، ولا يبل طعينها.
وله من أخرى: أوثر حقك وإن أبقى علي دركا، وبوأني دركا، وقد حملت فلانا ما سمح به الوقت، وإن اشتبه القصد والسمت.
ومن أخرى: نبذ الوفاء، فحذفنا الفاء، وجفا الكريم، فالغينا الميم ... أقسم بالمتبسم البارد، والحبيب الوارد، قسما تبقى على الشيب حدته، ويعز على المشيب جدته، ذكرى من ذلك العهد مدت بسببه، ومتت إلى القلب بنسبه ...
وله يعتذر من استبطاء المكاتبة:
ألم تعلموا والقلب رهن لديكم ... يخبركم عني بمضمره بعدي
ولو قلبتني الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفري وأوطأتها خدي
ألم تعلموا أنّي وأهلي وواحدي ... فداء ولا أرضى بتفدية وحدي
وله من رسالة إلى وزير نكب، وكبير للنصب نصب، وهو أبو محمد ابن القاسم: مثلك - ثبت الله فؤادك، وخفف عن كاهل المكارم ما آدها وآدك -، يلقى دهره غير مكترث، وينازله بصبر غير منتكث، ويبسم عند قطوبه، ويفل شباة خطوبه، فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وخطرة يليها من الصنع الجميل ما يلي، لا جرم أن الحر كيف كان حر، وإن الدربرغم من جهله در، وهل كنت إلا حساما انتضاه، قدر أمضاه، وساعد ارتضاه، فإن أغمده فقد قضى ما عليه، وإن جرده فذلك إليه، أما أنه ما سلم حده، ولبس جوهر الفرند خده، لا يعدم طبنا يشترطه، ويمينا تخترطه، هذه الصمصامة، تقوم على ذكرها القيامة، طبقت البلاد أخباره، وقامت مقامه، في كل أفق آثاره. وأما حامله فنسي منسي ... وما الحسن إلا المجرد العريان، وما الصبح إلا الطلق الإضحيان، وما النور إلا ما صادم الظلام، ولا النور إلا ما فارق الكمام، وما ذهب ذاهب، أجزل حظه لعوض واهب.... إلى هاهنا من قلائد العقيان.
وذكر محمد الغرناطي في نزهة الأنفس، في أخبار أهل الأندلس، الوزير أبا عبد الله محمد ابن أبي الخصال وأثني عليه، وأورد له مسمطة في منادب قرطبة والزهراء. وهي:
سمت لهم بالغور والشمل جامع ... بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله المسامع
أذاع بها مرفضها المتصوب
ألا في سبيل الشوق قلب موكّل ... بركب إذا شاموا البروق تحملوا
هو الموت إلا أنّني أتجمّل ... إذا قلت هذا منهل عنّ منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب
أفي الله أما كل بعد فثابت ... وأما دنوّ الدار منهم ففائت