للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وثغرٍ. . زهت فيه ثَنايا، كأنّها ... حصى بَرَدٍ، يَشْفي الصَّدَى رَشَفاتُها.

ولمّا التقينا بَعْدَ بُعْدٍ من النَّوَى ... وقد حانَ منّي للسَّلام الْتفاتُها،

رأيت عليها للجمال بقيَّةً، ... فعاد لنفسي في الهوى نَشَواتُها

قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:

يقولون: لو دارَيْتَ قلبك، لارْعَوى ... بسُلوانه عن حبّ ليلى وعن جُمْلِ

قال: وأنشدني له:

يؤرّقني في واسط كلَّ ليلةٍ ... وَساوِسُ همٍّ من نَوىً وفِراقِ

فيا للهوى هل راحمٌ لمُتَيَّمٍ ... يُعَلُّ بكأس للفراق دِهاقِ؟

خليليّ هل ما فات يُرجَى؟ وهل لنا ... على النَّأْي من بَعد الفراق تَلاقِ؟

فإن كنتُ أبدي سلوة عن هواكمُ ... فإنّ صَباباتي بكم لَبَواقِي

ألا، يا حماماتٍ على نهر سالم ... سلِمتِ، ووقّاكِ التَّفُّرقَ واقِ

تعالَيْنَ نُبدي النَّوْحَ، كلٌّ بشَجْوه ... فإِنّ اكتتامَ الوَجْد غيرُ مُطاقِ

على أَنّ وَجْدي غيرُ وَجْدك في الهوى ... فدمعيَ مُهراقٌ، ودمعكِ راقي

وما كنت أدري، بعدَ ما كان بينَنا ... من الوصل، أَنّي للفراق مُلاقِ

فها أنتِ قد هيَّجْتِ لي حرق الجَوى ... وأبديتِ مكنون الهوى لوفاقي

وأسهرتِني بالنَّوْح، حتّى كأنّما ... سقاكِ بكاسات التَّفُّرق ساقِ

فلا تحسبي أَنّي نزّعت عن الهوى، ... وكيف نزوعي عنه بَعد وَثاقي؟

ولكنَّني أخفيتُ ما بي من الهوى ... لِكَيْ لا يرى الواشونَ ما أنا لاقِ

ابن جيا الكاتب هو جمال الدولة، شرف الكتاب، محمد. من أهل الحلة السيفية ب العراق. ومسكنه بغداد.

مجمعٌ ب العراق على بلاغته، مبدع للأعناق أطواق براعته. قد اتفق أهل العراق اليوم أنه ليس له نظير في الترسل، وأن روضه نضير في الفضل صافي المنهل. يستعان به في الإنشاء، ويستبان منه أسلوب البلغاء. وهو صناعة عراقية في الكتابة، وصياغة بغدادية في الرسالة. ولعدم أهل هذه الصناعة هناك عدم مثله، وعظم محله. لكنه تحت الحظ الناقص، مخصوص بحرفة ذوي الفضل والخصائص.

اشتغاله باستغلال ملكه، وانتهاج مسلك الخمول والانتظام في سلكه. يعمل مسودات لمسودي العمال، وينشئ بما يقترح عليه مكاتبات في سائر الأحوال.

وله مراسلات حسنة، ومبتكرات مستملحة مستحسنة. وله نظم بديع، وفهم في إدراك المعاني سريع.

وهو إلى حين كتبي هذا الجزء، سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، ب بغداد مقيم، وخاطره صحيح وحظه سقيم.

ومن جملة شعره ما كتبه إلى سعد الدين المنشيء في أيام السلطان مسعود، بن محمد:

هنِّئت في اليوم المَطِيرِ ... بالرّاح والعيش النَّضيرِ

ومُنحت بالعزّ الَّذي ... يُعدي على صَرْف الدُّهورِ

فاشرَبْ كُؤوساً، كالنُّجو ... م، تُديرُها أيدي البدورِ

من كلّ أهيفَ، فاترِ ال ... أَلْحاظِ، كالظَّبي الغَرِيرِ

يحكي الظَّلامَ بشَعره ... والصُّبحَ بالوجه المُنيرِ

فانعَمْ به، متيقّنا ... إِحمادَ عاقبةِ الأمورِ

فكبيرُ عفوِ الرَّبّ، مَوْ ... قُوفٌ على الذَّنْب الكبيرِ

واسلَمْ على طول الزَّما ... ن لكلّ ذي أمل قصيرِ

تُفني زمانَك كلَّه ... بالعزم منك وبالسُّرورِ

ما بين حفظٍ للثُّغو ... رِ وبين رَشْفٍ للثُّغورِ

ول ابن جيا في مدح الأمير أبي الهيج، بن ورام، الكردي، الجاواني:

سرى مَوْهِناً طَيْفُ الخَيال المؤرِّقِ ... فهاج الهوى من مغرم القلب شَيِّقِ

تخطَّى إلينا من بعيد، وبينَنا ... مَهامِهُ مَوْماةٍ من الأرض سَمْلَقِ

يجوب خُدارِيّاً، كأنَّ نُجومَه ... ذُبالٌ، يُذَكَّى في زُجاج مُعَلَّقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>