أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ أَبْرَأَنِي عَنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، أَوْ قَالَ: قَضَيْت الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَيَّ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، وَقَالَ لِلْقَاضِي: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدُمَ الْبَلْدَةَ الَّتِي فِيهَا الطَّالِبُ وَأَخَافَ أَنْ يَأْخُذَنِي بِالْمَالِ وَيَجْحَدَ الْإِبْرَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ وَشُهُودِي هَهُنَا، فَاسْمَعْ مِنْ شُهُودِي وَاكْتُبْ لِي إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مِنْ شُهُودِهِ؛ وَلَا يَكْتُبُ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَكْتُبُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: جَحَدَنِي الِاسْتِيفَاءَ مَرَّةً وَخَاصَمَنِي مَرَّةً فَأَنَا أَخَافُ أَنْ يُخَاصِمَنِي مَرَّةً أُخْرَى فَاسْمَعْ مِنْ شُهُودِي فَاكْتُبْ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ أَنَّهُ يَكْتُبُ.
وَمِنْ جِنْسِ مَسْأَلَةِ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مَسْأَلَتَانِ أُخْرَيَانِ: أَحَدُهُمَا مَسْأَلَةُ الشُّفْعَةِ. وَصُورَتُهَا رَجُلٌ قَالَ لِلْقَاضِي: إنِّي اشْتَرَيْت دَارًا وَفُلَانٌ الْغَائِبُ شَفِيعُهَا وَقَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَأَخَافُ أَنِّي إذَا ذَهَبْت ثَمَّةَ يَأْخُذُنِي بِالشُّفْعَةِ وَيُنْكِرُ التَّسْلِيمَ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَيَكْتُبَ بِذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي قُلْنَا.
الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ. وَصُورَتُهَا امْرَأَةٌ قَالَتْ لِلْقَاضِي: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا وَهُوَ فِي بَلْدَةِ كَذَا الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَذْهَبَ إلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَأَخَافُ أَنَّ زَوْجِي يُنْكِرُ طَلَاقِي فَاسْمَعْ مِنْ شُهُودِي وَاكْتُبْ لِي إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَالْقَاضِي هَلْ يُجِيبُهَا؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي حَضَرَ الْقَاضِي أَخْبَرَهُ عَنْ الْجُحُودِ وَالْخُصُومَةِ مَرَّةً سَمِعَ بَيِّنَتَهُ وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ.
وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ كَانَ الشَّفِيعُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ عِنْدَ الْقَاضِي يَكْتُبُ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظَاهِرٌ قَالُوا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْتُبَ.
وَإِذَا أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بِعِلْمِهِ فَاعْلَمْ بِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ بِعِلْمِهِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَّا أَنَّ فِي فَصْلِ الْكِتَابَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي صُورَةٍ وَهُوَ مَا إذَا عَلِمَ بِالْحَادِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَقْضَى ثُمَّ اُسْتُقْضِيَ. بَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يَكْتُبُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ كَمَا لَا يَقْضِي بِذَلِكَ الْعِلْمِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: يَكْتُبُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ وَبِقَبْضِهَا أَوْ بِإِجَارَتِهَا وَأَرَادَ كِتَابَ الْقَاضِي فَالْقَاضِي يَكْتُبُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي عَرَّفَ الْمُوَكِّلَ أَثْبَتَ مَعْرِفَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ يَكْتُبُ، وَقَدْ سَأَلْته الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا ثُمَّ يَكْتُبُ وَقَدْ وَكَّلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ يَذْكُرُ اسْمَ الْوَكِيلِ وَنَسَبَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ رَسْمِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّارِ يَكْتُبُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّارِ الَّتِي بِالْكُوفَةِ فِي بَنِي فُلَانٍ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا يَكْتُبُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارِهِ الَّتِي بِالْكُوفَةِ (فَالْحَاصِلُ) أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ مَا يُوَكِّلُهُ بِهِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ حَاضِرًا حَلَّاهُ زِيَادَةً فِي التَّعْرِيفِ، وَإِنْ تَرَكَ لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا بِالْكُوفَةِ يَكْتُبُ: وَكَّلَ رَجُلًا ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَوْكِيلَ الْغَائِبِ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ قَبْلَ قَبُولِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute