للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت؛ وما أقبح الشماتة، بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقّعها بعد كل لحظة، وعقب كلّ لفظة، والدّهر غرثان طعمه الخيار «١» ، وظمآن شربه الأحرار، فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أم يسرّ العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل شفاه الله وإن ظاهرناه بالعداوة قليلا، فقد باطنّاه ودّا جميلا، والحرّ عند الحميّة لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا تتصور حالتى إلا بصورتها من التوجّع لعلّته، والتحزّن لمرضته، وقاه والله المكروه، ووقانى سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله.

قال البديع في سياقة أخباره مع أبى بكر الخوارزمى:

أولها أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلّا نيسابور دارا، وإلّا جوار السادة جوارا، لا جرم أنا حططنا بها الرّحل؛ ومددنا عليها الطّنب، وقديما كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوّقه، وبخبره على الغيب فنتعشّقه، ونقدّر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة عن القشرة، وفي المودّة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع «٢» :

أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب

فأخلف ذلك الظنّ كلّ الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كلّ الاختلاف، وكان قد اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزّة بزوها، وفضّة فضوها، وذهب ذهبوا به، ووردنا نيسابور براحة، أنقى من

<<  <  ج: ص:  >  >>