للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا]

هو الدهر لا يعجب من طوارقه، ولا ينكر هجوم بواثقه. عطاؤه فى ضمان الارتجاع، وحباؤه فى قران الانتزاع. من عرف الزمان لم يستشعر منه الأمان، وتصرّف الحوادث، بين الموروث والوارث. الدهر مشحون بطوارق الغير، مشوب صفو إيامه بالكدر، ممزوج صابه بالعسل، موصولة حبال الأمن فيه بأسباب الأجل. قد جعل الله الدنيا دار قلعة، ومحلّ نقلة «١» ، فمن راحل ليومه، ومن مؤخّر لغده، وكلّ متشوّف لأجله، وجار لأمده. ما الدنيا إلا دار النقلة، ولا المقام فيها إلّا للرّحلة، إنّ المرء حقيق إذا طرقه ما يتحيّف صبره [ويتطرّق صدره] ، أن يعود إلى علمه بالدنيا كيف نصبت على النّقلة، وجنبت طويل المهلة، وابتدئت بالنفاد، وشفع كونها بالفساد، وأن الثاوى فيها راحل، والأيام فيها مراحل. موهوب الدنيا مسلوب وإن أرجىء إلى مهل، وممنوحها مجذوب وإن أخّر إلى أجل. لو خلّد من سبق، لما وسعت الأرض من لحق؛ ولذلك جعلت الدنيا دار قلعة، ومحلّ نجعة.

سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب

تملّكها الآتى تملّك سالب ... وفارقها الماضى فراق سليب

وقال عتبة بن هارون: كنت مع فضل الرقاشى، فمرّ بمقبرة، فقال: يأهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، التى نطق بالخراب فناؤها، وشيّد بالتراب بناؤها، ساكنها مغترب، ومحلّها مقترب، أهل هذه المنازل متشاغلون، لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران، قد طحنهم بكلكله البلى، وأكلهم الجندل والثّرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>