للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[أخلاق الملوك]]

قال الجاحظ: حدثنى الفضل بن سهل قال: كانت رسل الملوك إذا جاءت بالهدايا يجعل اختلافهم إلىّ، فتكون المؤامرات فيما معهم من ديوانى، فكنت أسأل رجلا رجلا منهم عن سير ملوكهم، وأخبار عظمائهم، فسألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم، فقال: بذل عرفه، وجرّد سيفه، فاجتمعت عليه القلوب رغبة ورهبة، لا ينظر جنده، ولا يحرج رعيّته؛ سهل النّوال، حزن النكال، الرجاء والخوف معقودان في يده.

قلت: فكيف حكمه؟ فقال: يردّ الظّلم، ويردع الظالم، ويعطى كلّ ذى حق حقّه؛ فالرعية اثنان: راض، ومغتبط.

قلت: فكيف هيبتهم له؟ قال: يتصور في القلوب، فتغضى له العيون.

قال: فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائى إليه، وإقبالى عليه، فسأل الترجمان: ما الذى يقوله الرومىّ؟ قال: يذكر ملكهم، ويصف سيرته؛ فتكلّم مع الترجمان بشىء، فقال لى الترجمان: إنه يقول: إنّ ملكهم ذو أناة عند القدرة، وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة، وذو عقوبة عند الاجترام، قد كسا رعيّته جميل نعمته، وخوّفهم عسف نقمته؛ فهم يتراءونه رأى الهلال خيالا، ويخافونه مخافة الموت نكالا، وسعهم عدله، وردعتهم سطوته، فلا تمتهنه مزحة، ولا تؤمّنه غفله؛ إذا أعطى أوسع، وإذا عاقب أوجع؛ فالناس اثنان: راج وخائف، فلا الراجى خائب الأمل، ولا الخائف بعيد الأجل. قلت: فكيف هيبتهم له؟ قال: لا ترفع إليه العيون أجفانها، ولا تتبعه الأبصار إنسانها، كأنّ رعيته قطا رفرفت عليها صقور صوائد.

فحدثت المأمون بهذين الحديثين فقال: كم قيمتهما عندك؟ قلت: ألفا درهم.

قال: يا فضل؛ إن قيمتهما عندى أكثر من الخلافة، أما عرفت قول علىّ بن

<<  <  ج: ص:  >  >>