للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم أبتذله للنوائب، وإن جلّت وقعا، ونالت منى منالا لم يعتد طرق المصائب، وإن عظمت فجعا. كتبت عن اضطراب نفس، واضطرام صدر، والتهاب قلب، وانتهاب صبر؛ فما أعظمه مفقودا! وما أكرمه ملحودا! إنى لأنوح عليه نوح «١» المناقب، وأرثيه مع النجوم الثواقب، وأبكيه مع المعالى والمحاسن، وأثنى [عليه] بثناء المساعى والمآثر. ليت يمين الزمان شلّت قبل أن فتكت بمهجه الفضل، وعين الزمان كفّت قبل أن رأت مصرع الفخر. لقد رزئنا من فلان عالما فى شخص، وأمّة فى نفس. مضى والمحاسن تبكيه، والمناقب تعزّى فيه.

العيون لما قرّت به أسخنها فيه ريب المنون، ولما شرحت به الصدور قبضها بفقده المقدور. قد ركب على الأعناق، بعد العتاق، وعلى الأجياد بعد الجياد، وفاح فتيت المسك من مآثره، كما يفوح العنبر من مجامره. كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالغضارة غبرة، وبالبياض ظلمة، واعتاض من تزاحم المراكب تلادم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل. هذى المكارم تبدى شجوها لفقده، وتلبس حدادها من بعده، وهذى المحاسن قد قامت نواد بها مع نوادبه، واقترنت مصائبها بمصائبه. لو قبلت الفدية لوقيته بنفسى وأيام عمرى، علما بأنّ العيش بمثله من إخوان الصفا يصفو، وبظعنه عن الدنيا يكدر ويعفو. لو وقى من الموت عزيز قوم لعزّته، أو كبير بأولاده وأسرته، أو ذو سلطان باستطالته وقدرته، أو زعيم دولة بحشده وعدّته، لكان الماضى أحقّ من وقى وأولى من فدى، وكنا أقدر على دفع ما حدث، وذبّ ما كرث وأرهق؛ لكنه الأمر المسوّى فيه بين من عزّ جانبه وذلّ، وكثر ماله وقلّ، حتى لحق المفضول بالفاضل، والناقص بالكامل.

<<  <  ج: ص:  >  >>