وشخص إسحاق الموصلى إلى الواثق بسرّ من رأى، وأهله ببغداد، فتصيد الواثق وهو معه إلى نواحى كبراء، فلما قرب من بغداد قال:
طربت إلى الأصيبية الصّغار ... وهاجك منهم قرب المزار
وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الدّيار
ولحّنه وغنّاه الواثق، فاستحسنة وأطربه، فصرفه إلى بغداد على ما أحب وكان إسحاق قال أولا:
وكلّ مسافر يشتاق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
فعابوا قوله «يوما» ، وقالوا: هى لفظة قلقة في هذا الموضع، لم تحلّ بمركزها، ولا لهاهنا موقع. قال: فضعوا مكانها مثلها لا خيرا منها. فما استطاعوا ذلك، فغيّرها إلى ما أنشدت أولا.
وقال أبو نواس:
أما الدّيار فقلما لبثوا بها ... بين اشتياق العيس والرّكبان
وضعوا سياط الشّوق فوق رقابها ... حتى طلعن بها على الأوطان
وقال مخلد بن بكار الموصلى:
أقول لنضو أنفد السّير نيّها «١» ... ولم يبق منها غير عظم مجلّد
خدى بى ابتلاك الله بالشّوق والهوى ... وشاقك تحنان الحمام المغرّد «٢»
فمرّت سريعا خوف دعوة عاشق ... تشقّ بى الموماة في كلّ فدفد «٣»
فلما ونت في السير ثنّيت دعوتى ... فكانت لها سوطا إلى ضحوة الغد
وكان مخلد حلو الطبع، وهو القائل يمدح رجلا:
يطلع النّجم على صعدته ... فإذا واجه نحرا أفلا
معشر إن ظمئت أرماحهم ... أوردوهنّ مجاجات الطلى