أَبْكَيْتُمُ عيني دماً لفِراقكم ... فكأَنّما إِنسانها مجروح
والبيت المشار إليه:
وكأَنّ قلبي حين يَخْطُرُ ذكركُمْ ... لَهَبُ الضَّرام تعاورته الرّيح
فقلت: له صدقت، فإن الوزير المغربي قصد تشبيه خفقان القلب وأنت شبهت القلب الواجد باللهب، وخفقانه باضطرابه عند اضطرامه لتعاور الريح، فقد أربيت بالفصاحة على ذلك الفصيح.
وأنشدني أيضاً من قوله أيام شبابه وهو مُعْتَقَلٌ وقد جرى ذكر الخيال:
ذَكَر الوفاءَ خيالُك المُنْتابُ ... فأَلَمّ وهو بودّنا مُرْتابُ
نفسي فِداؤك من حبيبٍ زائرٍ ... مُتَعَتَّبٍ عندي له الإعتاب
مُسْتَشْرِفٍ كالبدر خَلْفَ حجابِه ... أَوَ في الكرى أَيضاً عليك حِجاب
ودّي كعهدِك والدّيارُ قريبةٌ ... من قبل أَن تتقطَّع الأَسباب
ثَبْتٌ فلا طولُ الزّيارة ناقِصٌ ... منه وليس يزيده الإِغْباب
حَظَر الوفاءُ عليّ هَجْرَك طائعاً ... وإذا اقُتِسرتُ فما عليّ عِتاب
قلت له أحسنت، وتذاكرنا قول أبي العلاء المعري في الخيال:
لو حَطَّ رحليَ فوق النجم رافعُه ... أَلفيتُ ثَمَّ خَيالاً منكَ مُنْتَظِري
وأبلغ من هذا في بعد المسافة:
وذكرتُ كم بين العَقِيق إلى الحمى ... فَجِزْعُت من أَمد النَّوى المُتَطاوِل
وعَذَرْتُ طَيْفَك في الجفاء فإِنه ... يَسْري فيُصْبِحُ دونَنا بمراحِلِ
ثم أنشدني الأمير أسامة قصيدةً نونية، لنفسه، منها:
مُحَيّاً ما أَرى أَمْ بَدْرُ دَجُنْ ... وبارُق مَبْسِمٍ أَم برقُ مُزْنِ
وثغرٌ أم لآلٍ أَم أَقاحٍ ... وريقٌ أَم رَحيقٌ بنت دَنّ
ولحظٌ أَم سِنانٌ ركّبوه ... بأَسمرَ من نبات الخَطّ لَدْن
ومنها:
فيا مَنْ منه قلبي في سعيرٍ ... وعيني منه في جَنّاتِ عَدْنِ
إِذا فكَّرتُ في إِنفاق عُمري ... ضَياعاً في هواك قَرَعْتُ سِنّي
وآسَفُ كيف أَخْلَق عهدُ ودّي ... وآسي كيف أَخلف فيك ظنّي
وأَعجبُ ما لقيتُ من الليالي ... وأَيُّ فِعالها بي لم يَسُؤْني
تَقَلُّبُ قَلْبِ مَنْ مَثْواه قلبي ... وجَفْوَةُ مَنْ ضَممتُ عليه جفني
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
حتّامَ أَرغبُ في مَودَّة زاهدِ ... وأَروم قُرْبَ الدّار من مُتباعِدِ
وإِلامَ أَلتزمُ الوفاء لغادرٍ ... جانٍ وأُسْهِرُ مُقْلَتَّي لراقد
وأَقول هِجْرَتُه مَخافَةَ كاشحٍ ... يُغْري بنا وحِذَارَ واشٍ حاسِدِ
وأَظُنُّهُ يُبدي الجفاءَ ضَرورةً ... وإِذا قطيعُته قطيعةُ عامد
يا هاجراً أَفنى اصِطباري هَجْرُه ... وابتَزَّ ثوبَ تَماسُكي وتَجالُدي
كيف السّبيلُ إلى وِصالك بعدما ... عَفَّيْتَ بالهِجران سُبْلَ مَقاصدي
ويلومُني في حَمْلِ ظُلْمِك جاهلٌ ... يَلْقى جَوى قلبي بقلبٍ باردِ
يَزْري على صَبْري بصبرٍ مُسْعِدٍ ... ويَصُدُّ عن دمعي بطرفٍ جامد
أَتُراك يعطِفُك العِتابُ وقلّما ... يَثْني العِتابُ عِنانَ قلبٍ شارد
هَيْهات وصْلُك عند عَنْقا مُغْرِبٍ ... ورضاك أَبْعدُ من سُهًى وفراقد
وَمِنَ العَناءِ طِلابُ ودٍّ صادقٍ ... من ماذقٍ وصلاحُ قلبٍ فاسد
وأنشدني لنفسه في الحباب من أبيات:
وقدعلاها حَبابٌ ... كاللؤللؤ المنظومِ
رأَيت شمسَ نهارٍ ... قد رُصِّعتْ بالنُّجوم
واجتمعنا عند الملك الناصر صلاح الدين بدمشق ليلةً، وكان يلعب بالشطرنج، فقال لي الأمير أسامة: أما أنشدك البيتين اللذين قلتهما في الشطرنج. فقلت: هات فأنشدني لنفسه:
أُنْظُر إلى لاعبِ الشِّطْرَنْج يجمعُها ... مُغالِباً ثم بعد الجمعِ يَرْميها
كالمرءِ يكدحُ للدُّنْيا ويجمعُها ... حتى إِذا مات خَلاّها وما فيها