للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد حوى شَرَفَ الدنيا وإن صَفِرَتْ ... كَفّاه من فِضّة فيها ومن ذَهَبِ

هو الغنيُّ وإنْ لم يُمْسِ ذا نَشَب ... وهو النَّسيبُ وإنْ لم يُمْسِ ذا نسَبِ

وله أيضاً:

ساروا فَأَكْبادُنا جَرْحَى، وأعيُننا ... قَرْحَى، وأنفسنا سَكْرَى من القَلَقِ

تشكو بواطِنُنا من بُعدِهم حُرَقاً ... لكن ظواهِرُنا تشكو من الفَرَقِ

كأنّهم فوق أكوار المَطِيِّ وقد ... سارت مُقَطَّرةً في حالِك الغَسَقِ

دَراريَ الشُّهْب في الأبراج زاهرةً ... تسير في الفَلَك الجاري على نَسَق

يا مُوحِشي الدارِ مذ بانوا كما أَنِسَتْ ... بقُرْبهمْ، لا خَلَتْ من صَيِّبٍ غَدَق

إنْ غِبْتُمُ لم تَغِيبوا عن ضمائرنا ... وإنْ حَضَرْتُم حَمَلْناكم على الحدَق

وله أيضاً:

ولمّا رأيتُ الخال في صَحْنِ خَدِّه ... ذكرتُ احتراقَ القلبِ في نارِ صَدِّه

وعَرَّفَنا خَفْتَانُه حَيْفَ رِدفِه ... وبالغ في شَكْوَاه عن ضَعْفِ قَدِّه

فحينَ أدار البَنْدَ مِن فوق خَصْرِه ... رَأَيْناه في الحالَيْن لازِمَ حَدِّه

فلم يَطُلِ المَشدودُ شيئاً بحِلَّه ... ولم يَقْصُرِ المَحلولُ شيئاً بشَدِّه

وله أيضاً:

عارِضاه قد يَنَعَا ... جَلّ صانِعٌ صَنَعَا

كان وَرْدُ وَجْنَتِه ... قد أُذيل فامتنعا

وله من رسالةٍ أنشأها على لسان القصّار والصياد وهي مقامة مصنوعة مُجنّسة، على الفضل والبراعة مؤسسة، كتب بها إلى بعض القضاة ويستطرد بقوم وقعوا فيه: كنت لفرط الهُيام، في بعض الأيام، وصدري ضيّق، وفؤادي شيّق، إلى الحضرة القاضيّة، والشمائل المرضيّة، قد صرّحت بالإحصار، وحرصت على الإصحار، فاجتزت في الخروج، ببعض المروج، ودجلة قد تسلسل ماؤها، وصلصل حصباؤها، وصفا شفقُها، وطفا غلفقها، وسما حَبابها، وطما عُبابها، وغدا نونُها، وبدا مكنونها، فوقفتُ أُثني على باريها، وأكاد بالدمع أباريها، أسفاً على طِيب المشاهد، بتلك المعاهد، فإذا أنا بشيخ نبيل، وذقنٍ كالزِّبِّيل، مُضْطبع بإزار، حامل أوزار، قد لوّحت الشمس طلعتَه، وصهرت صلعته، بارز الجَناجِن، بأضلاع كالمحاجن، وجهه وجه مجرم، وزيّه زيّ مُحرم، كأنه بعض القُسوس، أو موبَذ المَجوس، يتلوه آخر عار، في أقبح شعار، بادي الإملاق، في دُرُسٍ أخلاق، ليس بصيِّر، ولا شيِّر، قد أدار على سوءته السمَل، واعتمّ ببعضه واشتمل، يُقِلّ بيتاً من خُوص، يُبدي خلله عن شُخوص، تلوح من تلك الرواشن، في أمثال الجواشن، فهي أحقّ باللهف، من فتية الكهف، لأن أولئك فازوا بالنعيم، وهؤلاء احتازوا الجحيم، فبدأني الأوّل بالسلام، ثم تهيّأ للكلام، وقال: أنا شيخ ذو بنات، قليل الهَنات، أستغني بكسب يدي، وأُنفق على ولدي، وأراني قد عجزت عن العمل، وقصّرت عن بلوغ الأمل، وإن استرحت إلى الإخلال، افتضحت بالإقلال، والفقر من حالفه هان، وعدِم البرهان، والوفر من أسعده زان، وكفاه الأحزان، المال يُكسب الارتفاع، والفقر يهدم المجد اليَفاع، الفقر قبر الأحياء، والنشَب نسب الأدعياء، الفقر يُضيّق المغاني الواسعة، والمال يُفيض المعاني الشاسعة، المال درج الفرَج، ومعرج إلى المخرج، ومفتاح الفلاح، وجناح إلى النجاح:

المالُ يستُر كلَّ عَيبٍ ظاهرٍ ... والفقرُ يُظهِرُ كلَّ عيبٍ باطنِ

فترى مثالبَ ذي اليَسار مَناقِباً ... ومَحاسِنَ الصُّعْلوكِ غيرَ مَحاسن

والفِكر في الأقسام، مُورث الأسقام، أين لابس التاج، من البائس المحتاج، أين من اكتفى فاستراح، ممن اعتفى فاستماح، أين هذا الشيخ الذي ترى، ممن باع واشترى، ذلك يظلّ في الكِنّ، وأنا أظل مع الجنّ، ألِج طول النهار، في الأنهار، وأُدلج في الأسحار، إلى البحار:

مُقَسَّماً طولَ دهري ... ما بَيْنَ شَطٍّ وَنَهْرِ

فالماءُ يقشُرُ رجلي ... والشمسُ تَبْشُر ظَهري

<<  <  ج: ص:  >  >>