للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رِجْلايَ من العجائب البحرية، وسائري من الوحوش البريّة، وقد ضجرتُ من النقع والعصر، والدقّ والقصر، أصبر على برد الماء، وجلد الصخرة الصماء، ثم المليح، أني أضربها وأصيح، كفِعل ذاك الوُغَيْد، أبي سالم بن الجُنَيْد، حين يؤذي الأحرار، ويشتكي الإضرار:

حاسِرٌ بالليلِ حافِ ... ودُجى الليلِ لِحافي

وأعُدُّ الماء غُماً ... وهو صافٍ للتّصافي

ثم أهتمّ لما يأتي، إذ كدره يكدِّر حياتي، وتراني حامل وزر، لشيءٍ طفيفٍ نزر، لا أنادي الأداني، ولا أناغي الأغاني، ولست برفيق الفريق، في رشف ريق الإبريق، أصرف بعض الأجرة، في كِرى الحجرة، وأنفق بقية الواصل، على الحُمْر الحواصل، وليس لي سعنة ولا معنة، ولا عافطة ولا نافطة، وقد ضعُفَ ساعدي، وقلّ مُساعدي، أبسط الثياب تارةً لتجفّ، ويسهل حملها وتخفّ، وطوراً تبهظني بثقلها، فلا أقدر على نقلها، إن مشيت أكوس، وإن جلست أنوس، جِلدي قد اندبغ، ولوني قد انصبغ، وبصري قد كلّ، ونظري قد قلّ، ثم كرب أن يكفُر، وأنشد لابن يَعْفُر:

ومن الحوادِث لا أبالك أنني ... ضُرِبَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ

لا أهتدي منها لمَدْفَع تَلْعَةٍ ... بَيْنَ العُذَيب وبين أرض مُراد

آخُذ الثوب كالورق، وأردُّه كالجلد المحترق، ومن غبار الخان، وسواد الدخان، لا يراد للكسوة، ولا يصلح للرجال ولا للنسوة، بعضه مُحرَّق، وبعضه مُخرَّق، سرّه إعلان، ولابسه عريان، تُبصره في غِربال، لا في سربال، وبعد فمن أنا من الأستاذِين، ورافعي الكَواذِين، وقد تعرَّقَتْني السنون، وتعلّقتني المَنون، فإلى الله المُشتكى، ثم انتحب وبكى، فمسح الآخر عُثْنونَه، وأوضح مكنونه، ونظر إلى صاحبه شَزْرَا، وعاب فعله وأزرى، وقال: يا عجبا لهذه الفَليقة، هل تغلِبنَّ القُوباء الرِّيقة، ويحك بهذا أتيت، هلاّ حكيت، قبل أن بكيت، ثم أقبل عليّ وبسمل، ومَثُل بين يديّ وحمدل، وأحسن التحية وجعفل، وقال: اسمع أيها السيد، لا كان المُتزَيِّد، أنا رجل زاهد، وهذا بما أقول شاهد، وقد كان عوَّل على الحكاية، فعدل إلى الشكاية، أنا أعرف الشيخ عبيد، وقوام عيشي من الصيد، حداني على هذه الصناعة، رغبتي في القناعة، نظرتُ إلى الدنيا بعينها، فما اغتررتُ بمَيْنها، ولا أوثقتْني بخداعها، ولا أوبقَتْني بمَتاعها، رأيت قُصاراها الفناء، فقلتُ فيم أقاسي العناء، وكم يا نفس البقاء، وإلام هذا الشقاء، لم لا أعتبر بمن سلف، وأطَّرِح هذه الكُلَف، وأنظر إلى عِراص الحِراص، وآثار ذوي الإكثار، ودور الصدور، ومنازل أهل المنازل، ورِباع أولي الباع، وذوي الأتباع، الذي صعَّروا الخدود، فصُرِّعوا في اللحود، وجاروا عن الحدود، فجاوروا الدود، جهلوا فلهِجوا بالحُطام، ورضعوا فضرعوا بالفطام، عَمُوا فما أنعموا النظر، ومرقوا فما رمقوا العِبَر، خُوِّلوا فتخيَّلوا المقام، ومُوِّلوا فأمَّلوا الدوام، تعادَوْا على رائقها، فتداعَوا ببوائقها، منحتْهم، وبنوائبها امتحنتْهم، ونطحتْهم، وبأنيابها طحنتْهم، لبسوا فأبلسوا، وسُلبوا ما أُلبسوا، نهوا وأمروا، ولهوا وعمَروا، بلغوا وغلبوا، وجلبوا وخلبوا، برَّتْ بهم ولطفت، ثم كرَّت عليهم وعطفتْ، أعارت فأبهجت، ثم أبارت فأنهجت، ترنَّمت فأطاحت نغماتُها، ثم تنّمرتْ فأحاطت نقماتُها، كم نكست من سكَّنتْ، وكمنت لمن مكَّنت، كم وهبت ثم نهبت، وأتعبت من أعتبت، وأخمدت من أخدمت، ولكمت من أكرمت، وما رحمت من حرمت، بل أغرمت وأرغمت، فغفلوا حتى أفلوا، وطلعوا حتى عطلوا، وطلبوا حتى بطلوا، فعادت أموالهم وبالا، ولم تُغن عنهم قِبالا، ثم رغَّب في الخير وغرّب، ورطّب حُنجوره وطرَّب، وأنشد أبياتاً في الزُّهد، أحلى من الشُّهْد، بعثني على حفظها، سلامة لفظها وهي:

غريقَ الذنوبِ أسيرَ الخَطايا ... تنَبَّه فدُنياك أمُّ الدَّنايا

تَغُرُّ وتعطي ولكنّها ... مُكَدِّرةٌ تسترِدُّ العَطايا

وفي كلِّ يومٍ تُسَرِّي إليك داءً فجِسمُك نَهْبُ الرَّزايا

أما وَعَظَتْك بأحداثِها ... وما فعلت بجميع البرايا

ترى المرءَ في أَسْرِ آقاتِها ... حَبيساً على الهمِّ نُصْبَ الرّزايا

<<  <  ج: ص:  >  >>