للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإطلاقه حين تَرْثِي له ... وَحَسْبُك ذا أن تُلاقي المنايا

ويا راحلاً وهو ينوي المقام ... تزَوَّد فإنّ الليالي مَطايا

ثم إن الشيخ رجع، فنثر بعد الإنشاد وسجع، وذكر كلماتٍ استغربتُها، فاستعدتها منه وكتبتها، وهي:

الأيّامُ تُكدِّر، لكن المرءُ يُقَدِّر ... أحلامٌ سُعودُها، دارٌ المَيْنُ وُعودُها

الإجْرام زادُها، إذ تُرَدّي مَن يَرْتَادها ... إظْلامٌ إصْباحُها، دنيا الخُسرُ أرباحها

وحُطامٌ مَتاعها، شَيْنٌ وهو خداعها ... نِيامٌ فيها نحن، أما نُهانا غالَ الوَهْن

أنعامٌ سُكّانها، حتى عَمَّ بُهتانُها ... أَرْمَامٌ حِبالُها، عِرْسٌ الهجرُ وِصالُها

فِطام إرْضاعُها، ظِئرٌ تخدع نُهاك ... أَيْتَامٌ أولادُها، أمٌّ الغَيُّ رَشادها

إعْدام جُودُها، إذا لانعدام وُجودها ... أَسْقَام أفعالها، لكن الشَّهْدُ مَقالها

فقلت: أراك قد تكلّفتَها، ففيم هكذا ألّفتها، قال: لأنها درّ مُنظّم إن قُلِّبت وشعر منظوم إن قُلبت، وشحَّتُها بزينتَيْن، وصحّحتها كلَّ بيت من قرينتَيْن:

أما تَراها كَخَوْدٍ أقبلَتْ بقِبا ... وغَيَّرَتْ زِيَّها خَوْفَاً من الرُّقبا

تلَوَّنَتْ فَحَكَتْ في الحالتَيْن أبا ... بَراقِشٍ وأتتْ في عِدَّةِ النُّقبا

ثم كرّ يذكر المنيّة، وذمِّ الدنيا الدنيّة، وقال:

مُرَوَّغٌ طالبُها مُعَذَّبٌ خاطبُها مُنَكَّصٌ آمِلُها

مُمَنَّعٌ مَعْرُوفها مُسبَّبٌ مَخوفها مُنغَّصٌ آكِلُها

مُضَعْضعٌ جَنابُها مُشَوَّبٌ شرابها مُغَصَّصٌ ناهلُها

مُنْقَطعٌ مَتاعُها مُخَيَّبٌ مُبْتاعها مُخْتَرَصٌ نائلُها

فقلت قد عرَّفتني شِكالك، ووقفتني على حلّ إشكالك، ولعمري قطوفها دانية، ولكن مقلوبها ثمانية، ولو كانت مثل أختها، لرُزقت مثل بختها، فألقى ما كان حامله، وفرك غيظاً أنامله، وقال: إن قدرتَ في تقطيعها، على حصر جميعها، وعددت آحادَها والثُّنى، فقد بلغت المُنى، أتِّخذُك إذاً من الناس خِلاّ، وأُسَوِّغكَ ما معي حِلاّ:

تمَلُّها فهي وربّي المُعينْ ... أربعةٌ تُوفي على أربعين

تُذْكِرُك السادةَ أَعْنِي الأُلى ... عاداهُمُ فيك الشُّيَيْخُ اللعين

فلما اعتبرتها، أكبرتها، وقبّلت عينيه، وأقبلت بكُلّي عليه، فقال: مالي لا أستغني عن الخلق، بالحلال الطلق، وأتيه على أصحاب العصور، وأرباب السُّدَد والقصور، كيف أتناول ما لا يحلّ، وأتطاول إلى ما يضمحلّ، وبم أفاخر، وأبي العظم الناخر، وبعد فمن الخالد، وما يُغني الطارف والتالد، والغنيّ أسوأ حالاً من الفقير، يوم الحساب على الفتيل والنقير، واطَّلعَ على نيتي، عالمُ سِرّي وعلانيتي، فاجتزتُ يا ابن الأماجد، ببعض المساجد، وقد تلا في المحراب إمامه، أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه، فنبّهني على الاصطياد، إذ نويتُ حُسن الارتياد، وقلتُ هذا باب الأرباح، ومن أسباب المباح، أتَّجِرُ بلا بضاعة، من غير خُسرٍ ولا إضاعة، فقصدتُ شيخاً يعمل الشبك، فحَباني أجودَ ما حبك، وادَّخرت القصب والبكر، ادخار من نصب واحتكر، وقلتُ لا بد من الآلة، والإعداد لهذه الحالة، غيري يعُدّ الدنانير، وأنا أعدّ الصنانير، ثم إني بَكَرْتُ إلى الشطّ، قبل بكور البط، فبينا أنا أسرح، وأفكر كيف أطرح، إذ دعاني هذا الشيخ الحَصيف، الذي شتاؤه مَصيف، وقال يا ابن الأنجاب، هلُمّ إلى الشيء العُجاب، أدرك هذا الحوت، وإياك أن يفوت، فإن أهملته فاز، فإنه على أوفاز، فلما تقدمتُ إليه، وأشرفت عليه، سمعته يقول لحوت آخر، أظنه طاوله وفاخر، ويحك أنا أوحد الحركة، وأرضي أرض اليُمن والبركة، أنا من خير البقاع، وأشرف الأصقاع، أنا من الكورة المذكورة، ذات السجايا المشكورة، بلدي ترابه عبير، وثوابه كبير، وحجرُه محجوج، وشجره يَلَنْجوج، ثم انفتل وتثنّى، وأوقع لنفسه وغنّى:

بقُطْرَبُلَّ القَطْرُ بلّ ... سُهولَتَها والجَبَلْ

نَشَأْتُ فهل من فتىً ... له بجدالي قِبَلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>