وخرج عظيم الفرنج في غرة ربيع الأول سنة ثمان وستين لقصد حوران في خيله ورجله، وبات ِبقريةٍ يقال لها سمسكين، وسار للقائه نور الدين، وكنت معه، فلما عرفوا رحلوا راجعين، ونزلوا بالفوار، ثم توجهوا إلى السواد لائذين بالفرار، فقال لي نور الدين: أما تصف ما نحن فيه بقصيدةٍ، فارتجلت عند النزول بالمخيم مدحةً مشتملةً على وصف الحال، وسميت فيها كل من كان حاضراً من الرجال، الأكابر الأبطال، وسأورد منها قطعةً، وأذكر من معاني أبياتها لمعةً، وأولها:
عُقِدَتْ بِنَصِركَ رايَةُ الإْيمانِ ... وَبَدَتْ لِعَصرِكَ آيَةُ الإحْسانِ
يا غالِبَ الغُلْبِش المُلوكِ وَصائِدَ الصِّ ... يدِ اللُّيوثِ، وَفارِسَ الفُرْسانِ
يا سالِبَ التِّيجانِ من أَرْبابِها ... حُزْتَ الْفَخارَ على ذَوِي التّيجانِ
مَحْمودٌ المْحَمْودُ ما بَيْنَ الْوَرى ... في كُلِّ إقْليمٍ بِكُلِّ لِسانِ
يا واحِداً في الْفَضْلِ غَيْرَ مُشارَكٍ ... أَقْسَمْتُ مالَكَ في البْسَيطَةِ ثانِ
أَحْلَى أَمانِيكَ الجْهادُ وإنَّهُ ... لَكَ مُؤْذِنٌ أَبَداً بِكُلِّ أمانِ
كَمْ بِكْرِ فَتْحٍ وَلَّدَتْه ظُبَاكَ مِنْ ... حَرْبٍ لِقَمْعِ المُشْرِكينَ عَوانِ
كَمْ وَقْعَةٍ لَكَ في الْفِرَنْج حَديثُها ... قَدْ سارَ في الآفاقِ، والْبُلْدانِ
كَمْ مُصْعَبٍ عَسِرِ الْمَقَادةِ قُدْتَهُ ... نَحْوَ الرَّدى بِخَزائم الخْذُلانِ
قَمَّصْتَ قَوْمَصَهُمْ رِداءً من رَدىً ... وَقَرَنْتَ رَأسَ بِرَنْسِهمْ بِسِنانِ
وَمَلَكْتَ رِقَّ مُلوكِهمْ وَتَرَكْتَهُمْ ... بالْذُُّلِّ في الأقَيْاد والأسْجان
وَجَعَلْتَ في أَعْناقِهمْ أَغْلالَهُمْ ... وَسَحْبَتهْم هوْناً على الأَذْقانِ
إذْ في السَّوابِغِ تُحْطَمُ السُّمْرُ القْنَا ... والْبيضُ تُخْضَبُ بالنَّجيعِ الْقاني
وعَلى غِناءِ الْمَشْرَفِيَةِ في الطُّلَى ... والْهامِ رَقْصُ عَوامِلِ المُرَّانِ
وَكأَنَّ بَيْنَ النَّقْعِ لَمْعَ حَديدها ... نارٌ تَأَلَّقُ مِنْ خِلالِ دُخانِ
غَطَّى العَجاجُ بِهِ نُجومَ سَمائِهِ ... لِتَنُوبَ عَنها أنْجُمُ الخْرِصانِ
ومنها:
يا خَيْبَةَ الإفْرَنْجِ حينَ تَجَمَّعوا ... في حَيْرَةٍ وأَتَوا إلى حَوْرانِ
جاؤوا وَظَنُّهُمُ يُعَجِّلُ رِبْحَهم ... فأَعَدْتَهُمْ بالِخْزَي والْخُسْرانِ
وَظُنونُهُمْ وَقُلوبُهُمْ قد أَيْقَنَتْ ... لِلرُّعْبِ بالإِخْفاقِ والْخَفَقانِ
وَجَلَوْتَ نورَ الدِّينِ ظُلْمَةَ كُفْرهم ... لمّا صَدَعْتَ بِواضِحِ الْبُرهِانِ
وَهَزمَتْهَمُ بالْرَّأْي قبلَ لقائِهمْ ... والرّأْيُ قَبْلَ شَجاعَةِ الشُّجْعانِ
راحوا فباتوا تَحْتَ كل مَذَلَّةٍ ... وَضَرَبْتَ مِنهْم فَوْقَ كلِّ بَنانِ
ما في النَّصارى الْغُتْمِ إلاّ مَنْ لَهُ ... في الصُّلْبِ، بانَ الكَسْرُ وَالصُّلْبانِ
وَلَّوْا وَقَلْبُ شُجاعِهِمْ في صَدْرهِ ... كالسَّيْفِ يُرْعِدُ في يَمينِ جَبانِ
فَارُوا مِنَ الفَوَّارِ عِنْدَ فِرارِهِمْ ... بِالْفَوْرِ وَامْتَدّوا إلَى المْدّانِ
وَأَزارها الشَّلاّلَةَ الشَّلُّ الّذي ... أَهْدى لَهُمْ شَلَلاً إلَى الأَيْمانِ
وَلّى وُجُوهَهُمُ سَوادُ وُجُوهِهْم ... نَحْوَ السَّوادِ، وَآذَنُوا بِهَوانِ
ومنها:
حَمَلَتْ عَلَيهِمْ مِنْ جُنودِكَ فِتْيَةٌ ... لمْ تَدْرِ غَيْرَ حَمِيَّةِ الفِتْيانِ
زَخَرَتْ بهمْ أمْواجُ آجكَ في الوَغى ... غُزُراً وَطَمَّ بِهمْ عُبابُ طُمانِ