للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأُقسِمُ أَنَّ الطرسَ قد خافَ منهم ... وهذا دليلٌ أن كاتِبَهُ مَرْعِي

فطوبى لعينٍ أَبصرتكَ وحبذا ... مَقَرُّكَ من ربعٍ وصُقْعُكَ من صُقع

فلو فارقتْ جسمي إِليك حياتُهُ ... لقلتُ أَصابتْ غيرَ مذمومةِ الصُّنْع

ثم وصل إلى الشام في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين في الخدمة الفاضلية فوجدته في الذكاء آية، أحرز في صناعة النثر والنظم غاية، يتلقى عرابة العربية له باليمين راية، قد ألحفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولاً، وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولاً، وأنا أرجو أن تترقى في الصناعة رتبته، وتعزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته، وتصفو من الصبا منقبته، وتروى بماء الدربة رويته، وستكثر فوائده، وتؤثر قلائده.

ومن جملة ما كتبه لي بخطه، وأملعنيه بنقطه، وأبرزه لي من سمطه، قصيدٌ يمدح بها الأجل الفاضل أبا علي عبد الرحيم بن علي البيساني، ويذكر مسيره صحبته للكتابة بين يديه، ويهنئه بعيد الفطر:

إِن كنتَ ترغبُ أَنْ ترانا فالْقَنا ... يومَ الهياجِ إِذا تشاجرتِ القَنَا

تلقَ الأُلى يُجنيهمُ ثمرَ العلا ... قُضُبٌ يلذُّ بها الجنى ممن جنى

لا يشربون سوى الدماءِ مُدامةً ... إذ ينشقونَ من الأسنة سوسنا

وإِذا الحسامُ بمعركٍ غنَّى لهمْ ... خلعوا نفوسهمُ على ذاك الغِنَا

متورعين فإن بدتْ شمسُ الضحى ... جعلوا العَجَاجَ لها رداءً أَدكنا

يشكو النهارُ خيولَهُمْ من نقعها ... والليلُ يشكو من وجوههمُ السنا

ويكادُ يُعْدِي القِرنَ شدةُ بأسهم ... فيكادُ يومَ الروع أَن لا يَجْبُنَا

وإذا رأى الخطِّيُّ حدةَ عزمِهمْ ... نكرَ القناةَ وكاد أَن لا يطعنا

إني وإن أصبحتُ منهم إِنهمْ ... ليرون لِي خُلُقاً أَرقَّ وألينا

أهوى الغزالةَ والغزالَ وربما ... نهنهتُ نفسِي عفَّةً وتدينا

وأَهُمُّ ثم أخافُ عقبي معشرٍ ... أخنى عليهم سوءُ عاقبةِ الخَنَا

ولقد كففت عنان عيني جاهداً ... حتى إذا أعييت أَطلقتُ العِنَا

فجرتْ ولكن في الحقيقة عبرةً ... أَبقتْ على الخدين وسماً بيّنا

يا جَوْرَ هذا الحبِّ في أحكامه ... خدٌّ يُحَدُّ ولحظُ طَرْفٍ قد زنا

وأظنه قصد الجناسَ لأنه ... طرفٌ زنا لما رأى طَرْفاً رنا

يا قاتلَ الله الغواني ما لنا ... عنهم غِنَىً بل كم لنا ِّعنهم غنى

ومليحةٍ بخلت فكانت حُجَّةً ... للباخلاتِ وقلن هذي عُذْرُنا

كالبدر إِلا أنها لا تُجْتَلَى ... والغصنِ إِلا أَنها لا تُجْتَنَى

ضنَّتْ بطرفٍ ظلَّ يُعدى سقْمُهُ ... أَرأَيتمُ من ضنَّ حتى بالضنا

قالتْ تُعَيِّرُ من يكون مُبَخَّلاً ... فعلامَ أسموه البخيل بودِّنا

وإذا تشكَّى القلبُ إِسراعَ النوى ... ظلَّتْ تَشَكَّى منه إِفراط الوَنَى

وإذا بكت عيني تقولُ تبسمتْ ... إِنَّ الدموعَ لها ثغورٌ عندنا

يا عاذلين جهلتُمُ فضلَ الهوى ... فعذلتمُ فيه ولكنِّي أَنا

إني رأيتُ الشمسَ ثم رأيتها ... ماذا عليَّ إِذا عشقتُ الأَحسنا

وسألتُ من أيِّ المعادنِ ثَغْرُهَا ... فَوَجَدْتُ من عبد الرحيم المعدنا

أبصرتُ جوهرَ ثغرها وكلامَهُ ... فعلمتُ حقاً أَنَّ هذا من هنا

ذاك الكلام من الكمالِ بمنزلٍ ... لا يدركُ الساعي إليه سوى العنا

يدنو من الأَفهام إِلا أنها ... تلقاه أبعدَ ما يكون إذا دنا

ويسير وهو لحفظها مستوطِنٌ ... فاعجبْ لذلك سائراً مستوطنا

<<  <  ج: ص:  >  >>