للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما قال بحماه:

من للغريب هَفَتْ به الفِكَرُ ... لا العينُ تؤنسُهُ ولا الأَثَرُ

لا تلتقي أَجفانُ مقلته ... فكأنما أَهْدَابُهُ إِبَرُ

من طولِ ما يُرْمَى بغُرْبَتِهِ ... يبكي البكاءُ ويسهر السهر

يا طولَ ليلٍ لا صباحَ له ... سَحَروا الظلام فما له سَحَرُ

ولقد تحَّلأَ عن منازله ... طيفٌ لطولِ سُرَاه مُنْبَهِر

يأتي إليَّ لنقع غُلَّته ... فيصدُّهُ مِنْ مَدْمَعي نَهَر

وعهدْتُ قلبي جِسْرَ مَعْبَرةٍ ... لكنَّ ذاك الجسرَ مُنْكسِرُ

مذ نِمتُ لكن في كَرَى وَلَهي ... خُيِّلْتُ أن خيالَهُ القمر

يا دهرُ يا من لا حُنُوَّ له ... أَوَ ما علمتَ بأنني بَشَرُ

لو كنتَ تنطق قلت لِمْ بَطَراً ... فجميع ما بك أَصْلُهُ البَطَرُ

تأتي حماةَ وتشتكِي كدراً ... أو ما علمت بأنها كَدَرُ

وبقيتَ لا أهلٌ ولا ولدٌ ... فيها ولا وطَنٌ ولا وَطَرُ

صه يا زمانُ فإِنني رجلٌ ... لَيْسَتْ تُغَيِّرُ صَبْرَهُ الغِيَرُ

ماءُ البشاشة ملءُ صفحته ... والقلبُ فيه النارُ تَسْتَعِرُ

ولربما هطلتْ مدامعُهُ ... ومُراده أن يَغْرَقَ الحَوَرُ

فالخدُّ ميدانٌ صوالجُهُ ... هُدْبٌ لها من دمعه أُكَرُ

والنبعُ قالوا ما له ثَمَرٌ ... أنا نبعةٌ والدمع لي ثمر

ولأَرْكبنَّ الصعبَ غُرَّتُهُ ... غَرَرٌ وخَطْرَةُ عِطْفِهِ خَطَرُ

إمَّا وإما وهي واحدةٌ ... فيها مُرادُ النفس يَنْتَظِرُ

ريحَ الجنوبِ أَراكِ ناحلةً ... هل شفَّ جسمَكِ مثلِيَ السفر

وأركِ طيِّبَةً مُعَطَّرَةً ... هل أنتِ من أحبابنا خَبَرُ

تلك الأحبة روضُ ودِّهِمُ ... خَضِلٌ وماءُ صَفَائهم خَصِرُ

ومنها:

فارقتهم فتمايلوا أسفاً ... حتى ظننا أَنهمْ سَكِروا

فكأَنهمْ لدموعهم شربوا ... وكأَنهم بأَنينهم نَعَروا

كم فيهمُ مَن غَضَّ ناظرَهُ ... لما خلا من شخصيَ البصر

ويظن ظناً أن مقلته ... لولاي لم يُخْلَقْ لها نظر

يا ويحَ طرفٍ بعد فرقتهمْ ... لم يَجْرِ دمعٌ بل جرى قَدَر

كم كنت أَحذرُ من فراقهمُ ... فإذا دهى قَدَرٌ فلا حَذَرُ

لهفي على عيشٍ بنعمته ... كانت ذنوبُ الدهر تغتفر

ومنازلٍ باللهو آهلةٍ ... تُزْهَى بها الآمالُ والفِكَر

ومنازهٍ من حُسْنِ حيلتها ... يُنْسَى الحبورُ وتُنثَرُ الحِبَرُ

ومنها:

تلك الغصون شعورها وَرَقٌ ... متكلِّلٌ وعقودها زَهَرُ

تحت النهودِ كأنها بِدَرٌ ... سُرَرٌ تُفَرَّغُ فيهمُ صُرَرُ

آهاً لثغرٍ لو ظفرتُ به ... وكذا الثغور بها يُرَى الظَّفَر

من شادنٍ طرفي لفرقته ... زَنْدٌ وحُمْرُ مدامعي شَرَرُ

متحيرٌ في طرفه الحَوَرُ ... متبرِّجٌ في وجهه الخَفَر

لو لم يكنْ في الجفن عَسْكَرُهُ ... ما قيل إنَّ الجفنَ يَنْكسِرُ

حَفَّتْ مواردَهُ قلائِدُهُ ... وَيْلاهُ ذا خَصِمٌ وذا خَصِرُ

لم أُحْصِ كم عانقتُ قامته ... فتكسرت من ضمِّيَ الدُّرَرُ

أَصَبَرْتَ حتى يوم فرقته ... يا قلبُ! والتحقيقُ يا حَجَرُ

وورد إليه الخبر بوفاة الأسعد ولد الشيخ الأجل السديد علم الرؤساء، فقال يرثيه ويعتذر إلى والده من تأخير الرثاء بحكم اشتغاله بأحوال السفر، ونفذ إليه من حلب:

أصبحتُ بعدك في الحياة كفانِ ... وقد اكتفيتُ ولا أقولُ كفانِي

أَبكي فتجري مهجتي في عبرتي ... فكأنَّ ما أجريتُهُ أجراني

<<  <  ج: ص:  >  >>