ورد كتابه مستفهما لما طار إليه الخبر، من السيل الحامل الذي عظم منه الضرر. وقد كنت آخذا في الاعلام، بحوادثه العظام، فإنه أذهل الأذهان، وشغل الجنان، إذ أقبل يملأ السهل والجبل، والجنوب كما اضطجعت، والعيون قد هومت للنوم أو هجعت، فمن ماض قد استلبه، وناج قد حربه وفازغ قد أثكله، وحائر لا يدري ما حم له، والبرق يجب فؤاده، والودق ينسرب مزاده، قد استسلم للقدر، واعتصم بالله عز وجل ليس سواه من وزر، حتى أرانا آية إعجازه وبراهينه، وغيض الماء لحينه، وطلع الصباح على معالم قد غيرها، وآكام قد خربها، لا ينقضى منها عجب الناظر، ولا يسمع بمثلها في الزمن الغابر، فالحمد لله على وافي دفعه، ومتلافي عونه ونفعه، لا إلاه إلا هو.
وله من رسالة في وصف جوارح: قصدني مملوكه في ارتياد أفرخ من الشوذانقات عند أوانها والبعثة بها وقت تهيئها وإمكانها، فلم أفارق لها ارتقابا، ولا حدرت للمباحثة عنها نقابا، ولمظانها طلابا، إلى أن حان حين ظهورها وامتلأت منها حجور وكورها وبدا سعيها، واكتسى عريها، وجهت طبا رفيقا لاستنزالها، يرتقي إلى ذرى أجبالها، ويميز أفرهها ويحوز أشرهها، فحصلت منها عددا، جربت يدا فيداً، إلى أن تخرج منها ثلاثة أطيار، كأنها شعل نار، صيدها أجل كل صيد وقيدها أيما قيد، تقلب حوادق مقل، وتنظر نظر مختبل، وتسرع في الانقضاض، كالوحي والإيماض، وترجع إلى يد وثاقها، كأنما أشفقت من فراقها بمخلب دام، وأبهة مقدام.
وله في تولية حاكم: قلدت فلانا سلمه الله النظر في أحكاك فلانة وتخيرته لها بعدما خبرته واستخلفته، وقد عرفته واثقا بدينه، راجيا لتحصينه، لأنه ان احتاط سلم، وإن أضاع أثم، فليقم الحق على أركانه، ليضع العدل في ميزانه، وليسو بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، وليقف في الحكم عند اشتباهه، ولينفذه عند اتجاهه، ولا يقبل غير المرضي في شهادته، ولا يتعرف الاستقامة إلا من عادته، وليعلم أن الله مطلع على خفياته، وسائله يوم ملاقاته.
وكتب إلى صاحب قلبيرة يستدعي منه أقلاما: قد عدمت - أيدك الله - بهذا القطر الأقلام، وبها يتشخص الكلام، وهي حلية البيان وترجمة اللسان، عليها تفرع شعاب الفكر وذكرها منزل في محكم الذكر، ومنابتها بلدك، ويدك فيها يدك، وأريد أن ترتاد منها سبعة كعدد الأقاليم، حسنة التقليم، فضية الأديم، ولا يعتمد منها إلا صليبها والطوال أنابيبها، وإذا استمدت من أنفاسها، وافاك الشكر بطيب أنفاسها إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الوزير عبد الملك بن عبد العزيز عند الحادثة بقونكة: كتبت أعزك الله والحد فليل، والذهن كليل، بما حدث من عظيم الخرق، على جميع الخلق، فلتقم على الدين نوادبه، فقد جب سنامه وغاربه، ولتفض عليه مدامعه وعبراته، فقد غشيه حمامه وغمراته، وكان منيع الذرى، بعيدا عن أن يلحظ أو يرى، تحميه المناصل البتر، والذوابل السمر، والمسومة الجرد، ومشيخة كأنهم من طول ما التثموا مرد، فأبى القدر إلا أن يفجع بأشمخ مدائنه ومعاقله، ولا يترك له سوى سواحله، وكانت لطليطلة أختا، فاستلبها فجأة وبغتا، وقبل ما سلب الجزيرة وسطى عقدها، بلنسية جبرها الله. وأرجو أن يتلافى جميعها، من نظر أمير المسلمين ما يعيدها، فيملؤها خيلا ورجالا، وينفر بهم خفافا وثقالا، عليهم من قوادها شيبها وشبانها، وفيهم من أجناده زنجها وعربانها.
من كل أبلج باسم يوم الوغى ... يمشي إلى الهيجاء مشي غضنفر
يلقى الرماح بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
حتى يستقال جدها العاثر، ويحيا رسمها الدائر، فتبتهج الأرض بعد غبرتها، وتكتسي الدنيا بزهرتها، وما قصر القائد الأعلى في الجد والتشمير، والاحتفال بالأبطال المغاوير، حتى بلغ بنفسه أبلغ المجهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ولكن نفذ حكم من له الحكم، ورمى قضاؤه فما أخطأ السهم، والله لا يضيع له مقامه في العام السالف، وما أورد المشركين فيه من المتالف، فما انقضى فتح إلا ورد فتح، كالفجر يتبعه صبح، مد الله بسطته، وثبت وطأته، ولا زال الصنع الجميل على هذا الدين مراميا، وله محاميا، بعزته.