للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كتبت - أعزك الله - عن ضمير اندمج على سر اعتقادك صدره، وتبلج في أفق مرادك بدره، وسال على صفحات ثنائك مسكه، وصار في راحتي سنائك ملكه، ولما ظفرت بفلان حملته من تحيتي زهرا جنيا، يوافيك عرفه ذكيا، ويواليك أنسه نجيا، ويقضي من حقك فرضا مأتيا، على أن شخص جلالك لي ماثل، وبين ضلوعي نازل، لا يمله خاطر ولا يمسه عرض دابر.

وله: كل المعالي إليك ابتسامها، وفي يدك انتظامها، وعليك إصفاقها، ولديك إشراقها، وإن كتابك الرفيع وافاني فكان كالزهر الجني، والبشرى أتت بعد النعي، سرى إلى نفسي فأحياها، وأجلى عني كرب الخطوب وجلاها، وتنبه لي وقد نامت عني العيون، وتهمم بي وقد أغفلني الزمن الخؤون، فملكني بإجماله، واستخفني باهتباله، فلتأتينه بالثناء الركائب، تحمله أعجازها والغوارب. وأما ما وصف به الأيام من ذميم أوصافها، وتقلبها واعتسافها، فما جهلتها، ولقد بلوتها خبرا، ورددتها على أعقابها صغرا فلم أخضع بجفوتها، ولم أتضعضع لنبوتها، وعلمت أن الدنيا قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، فأعدت قول القائل:

تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل

وعلى حالاتها فما عدمت بها من الله صنعا لطيفا، وسترا كثيفا، له الحمد ما أومض بارق، ولمع شارق، وأما ما عرضه من الانتقال إلى ذراه، والتقلب في نعماه، والحلول بجنابه، فكيف، وأني به، وقد قيدني الهرم فما أستطيع نهضا، ولا أطيق بسطا ولا قبضا، ولو أمكنني لاستقبلت العمر جديدا، والفضل مشهودا، عند من تقر بسوابقه العجم والعرب، وتؤكل خلائقه بالضمير وتشرب، جازاه الله بالحسنى وأولاه، ثواب ما تولى بعزته تعالى.

وله وقد دعي إلى زفاف بعض الملوك: نعمه، أيده الله، قد أغرقتني مدودها، وأثقلتني لواحقها ووفودها. وافاني كتابه العزيز داعيا إلى المشهد الأعظم، والمحفل الأكرم، الذي ألبس الدنيا إشراقا، والمجد إبراقا، فألفى الدعاء مني سميعا، لا سيما وقد قلدتني به الشرف والسؤدد والبر جميعا، وسما لناظري فيه إلى حيث النجوم شوابك والمعالي أرائك، إلا أنه أيده الله أتم نظرا، وأوضح تدبرا من أن يلحق بخاصته الزلل، ويوقع عليهم الخلل. وقد علم أن الأيام تركن بالي كاسفا، وخطوي واقفا، فكيف يسوغ أن القاه بذهن كليل، وفكر عليل، إذن فقد أخللت بأياديه، وما أجللت رفيع ناديه، وأقسم القسم البربحياته - أطالها الله - ما كان من وطري أن أتأخر عنه ولي فيه الآمال العريضة، والقداح المفيضة، وفي يدي منه مواعد زهر النظام، ومواهب زرق الجمام، وإذا عرف الحقيقة رأى العذر واضحا، والسر لائحا، وعسى أن يلاحظ سعد، ويستنجز للمنى وعد، وينفسح خاطر، ويهتدي حائر، فيقف بببابه ملازما، ويخر على بساطه لاثما، إن شاء الله تعالى.

وحكى القيسي مؤلف قلائد العقيان أنه دخل بلنسية سنة ثلاث وخمسمائة فلقي أبا عبد الرحمان قد انحنى وهو يمسي بالعيش على صخر، ويمشي على ساق من الشجر، ودارت بينهما مراسلات. وكتب إليه الرئيس أبو عبد الرحمان: أنا - أعزك الله - عليك شحيح، ولك فيما تأتيه وتحتذيه نصيح، فالزمان لا يساعد، والأيام تعوق وتباعد، فاقصر من هذه الهمة، واقتصر من أمورك على المهمة، التي تفجأ مع الأوقات، ولا تلجأ فيها إلى ميقات، واقتصد في مواهبك، واقصد إلى العدل في مذاهبك، ولا تكلف في الجود بشرف، ولا تقف من التبذير على سرف، فلو أن البحر لك مشرب، والترب مكتسب، لنفدا معا، ولم يسدا موضعا، ولو كان النجم لك مصعدا، والفلك مقعدا، لما ثنيت إلى ذلك عنانا، ولا ارتضيتها لهمتك مكانا، وقد خطبتك في الحظوة سرا وجهرا، وبذلت لك الامرة اسنى مراتبك مهرا.

وكتب إليه بعد مفارقته: يا كوكب مجد أظلمت لغروبه منيرات الآفاق، وذهب ما كنت عهدته من الإشراق، لقد استرجعت مسراتي أجمعها، وأزلت عن نفسي في السلوة طمعها. فسقيا لعهدك، وقل له السقيا ويا لهفي بعدك، إن قضى لك البقيا وإن لي من الشوق ببعدك، والكدر لفقدك، ما لو كان بالفلك الدوار لم يدر، ولقد كانت غراء أيام تلاقينا، والأنس يساقينا، وإنها لممثلة لعيني، ما يحول السلو بينها وبيني، وعساها تعود، فتطلع معها السعود، إن شاء الله تعالى.

ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون

<<  <  ج: ص:  >  >>