للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله: "وجنة الكافر" أقول: أي: محل تنعمه وقضاء أوطار شهواته، وأمنه من الله ومن عذابه، وخلوص عنقه عن تحمل التكاليف الشرعية، فهي جنة له، وقد أورد هنا سؤال معروف وهو أنه: كم من كافر في بلاء وعناء وحاجة وفاقة وذلّ وصغار فكيف تكون الدنيا جنته (١)؟ وكم من مؤمن في سعة وعافية وعز ونعمة، فكيف يكون في سجن؟ وأجيب عنه: بأن ما يصير إليه المؤمن من نعيم الآخرة ولذاتها، وسعة عطائه، وروح قلبه وقالبه؛ يعد ما هو


(١) قال القرطبي في "المفهم" (٧/ ١٠٩ - ١١٠): قوله: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" إنما كانت الدنيا كذلك؛ لأن المؤمن فيها مقيد بقيود التكاليف فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسخ له الشرع، فيفك قيده ويمكنه من الفعل أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم والغموم والأسقام والآلام، ومكابدة الأنداد، والأضداد والعيال والأولاد. وعلى الجملة: "وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل بحسب دينه" كما قاله - صلى الله عليه وسلم -. وأيُّ سجنٍ أعظم من هذا؟! ثم هو في هذا السجن بحسب على غاية الخوف والوجل إذ لا يدري بماذا يختم له من عمل، كيف وهو يتوقع أمراً لا شيء أعظم منه, ويخاف هلاكاً لا هلاك فوقه؟ فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه لكنه لطف به، فهون عليه ذلك كله بما وعد على صبره, وبما كشف له من حميد عاقبة أمره.
والكافر منفك عن تلك الحالات بالتكاليف، آمنٌ من تلك المخاويف، مقبل على لذاته, منهمك في شهواته، معتز بمساعدة الأيام، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة.
وانظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (١٨/ ٩٣).
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (٨/ ٥١١): قوله: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها، وعلمه بما أعدّ له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر، أنه عند موته وعرضه عليه, فحبسه عنه في الحياة الدنيا، وتكليفه ما ألزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا ما فارقها استراح من نصبها وأنكادها خرج إلى ما أُعدَّ له واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته، والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب، وتنكيده بالعوائق حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم وعذاب النار، وشقاء الأبد.

<<  <  ج: ص:  >  >>