وقالت طائفة: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار، والإرشاد, وأما الأكل معه، ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام. وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطأ بين جزئي لا كلي، فكل واحد خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يليق بحاله، فبعض الناس يكون قوي الإيمان قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتطلبها، وبعض الناس لا يقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو - صلى الله عليه وسلم - فعل الحالتين معاً، لتقتدي به الأمة فيهما فيأخذ من قوي أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله. ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط وهما طريقان صحيحان: أحدهما: للمؤمن القوي، والآخر للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجة وقدرة بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه - صلى الله عليه وسلم - كوى، وأثنى على تارك الكي، وقرن تركه بالتوكل، وترك الطيرة ولهذا نظائر كثيرة, وهذه طريقة لطيفة حسنة جداً من أعطاها حقها، ورزق فقه نفسه, أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسنة الصحيحة. وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه, ومجانبته لأمر طبيعي وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكله معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة، فلا بأس به ولا تحصل العدوى من مرة ولحظةٍ واحدة فنهى سداً للذريعة, وحماية للصحة, وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة, فلا تعارض بين الأمرين. وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يُعدي مثله، وليس الجذمي كلهم سواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم من لا تضر مخالطته، ولا تعدي، وهو من أصابه من ذلك شيء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يعد بقية جسمه. فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى. وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي، ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي =