[ما يفعله الحاج بعد الحل]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما يفعله بعد الحل.
ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها، فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها].
قوله: (ثم يرجع بعد الحل إلى منى) يعني: إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، ثم ذبح هديه، ثم حلق رأسه، ثم طاف تحلل تحللين، التحلل الأول والتحلل الثاني، ثم يرجع إلى منى.
فهذه الوظائف الأربع أداها يوم العيد، فرمى أولاً جمرة العقبة، ثم ذبح هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، وإذا كان مفرداً ليس عليه ذبح، ثم حلق رأسه، ثم يفيض إلى مكة فيطوف ويسعى إن كان متمتعاً أو كان مفرداً ولم يكن سعى مع طواف القدوم، فيكون تحلل تحللين.
ثم يرجع بعد الحل إلى منى فيجلس بها ثلاث ليال إن تأخر، وليلتين إن تعجل في كل يوم من الأيام الثلاثة، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال، فيبدأ يرمي الجمرة الصغرى، ثم يرمي الجمرة الوسطى وهي التي بعدها، ثم يرمي جمرة العقبة وهذه ترمى يوم العيد وتكون هي الأخيرة، فهي آخر الجمرات من منى، وأقرب الجمرات إلى مكة، ولا بد من الترتيب، فإن رمى الجمرة الوسطى ثم الصغرى سقط رمي الجمرة الوسطى، فلابد من الترتيب، ولو نكس فرمى جمرة العقبة، ثم الوسطى، ثم الصغرى يحسب له الصغرى، وعليه أن يرمي الوسطى مرة ثانية بعد الصغرى، ثم العقبة الكبرى، والجاهل بالترتيب هنا لا يعذر، لابد أن يرتبها، فإن لم يرتبها وفاتت أيام التشريق عليه دم، والواجبات ليس فيها عذر، فالعذر في المحظورات مثل: حلق الرأس أو لبس الثوب، أما الواجبات فلابد منها، ومن لم يؤديها ولو جاهلاً أو ناسياً فعليه أن يؤديها في وقتها، فإن فات وقتها عليه دم عند أهل العلم.
قوله: (ولا يبيت لياليها إلا بها).
هذه هي السنة، يبيت الليالي في منى، والمراد بالبيتوتة أن يكون أكثر الليل موجوداً على أرض منى، سواء كان نائماً أو جالساً أو يصلي أو يأكل، فلا يلزمه النوم، فوجوده على أرض منى يكفي، لابد أن يبيت فيها، وهذا واجب على الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بعدم البيتوتة؛ لأجل سقاية الحاج، ورخص للسقاة والرعاة، والرخصة لا تكون إلا من شيء واجب، فدل على أنه واجب، وهذا هو المذهب.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن المبيت بمنى سنة وليس بواجب، ولا شيء على من تركه، وهو قول لبعض العلماء.
والصواب: أنه واجب؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء واجب، ولولا أنه واجب لما احتاج العباس أن يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليرخص له، وكذلك السقاة والرعاة، فلما رخص لهم دل على أن غيرهم لا يرخص لهم لوجوبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يبيت لياليها إلا بها فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات يبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة، ثم يتقدم فيقف فيدعو الله، ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك].
هذه هي السنة، أن يكون الرمي بعد الزوال، فلا يجزئ قبل الزوال، والزوال عند أذان الظهر، فإذا زالت الشمس رمى مرتباً، يبدأ بالجمرة الصغرى، فيرميها مستقبلاً القبلة إن تيسر، وإن لم يتيسر يرميها من أي جهة، سواء كان مستقبل القبلة أو غير مستقبل القبلة، والأفضل الأيسر له، فكونك تؤدي العبادة براحة هذا هو الأفضل، فإذا كان الاستقبال فيه مشقة وزحام تذهب إلى الجهة الثانية، والاستقبال مستحب وليس بواجب، ولا بد أن تكون سبع حصيات، وتكون متعاقبة، ويكبر مع كل حصاة، ويرميها رمياً، ولا يضعها وضعاً، لا بد من رمي، فيرى بياض إبطه حين يرميها، لأن الوضع لا يسمى رمياً، وإن رماها كلها مرة واحدة فيعتبر حجراً واحداً، لا بد أن تكون سبع مرات.
ثم بعد ذلك يجعلها عن يمينه ويتقدم ويرفع يديه فيدعو، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، وهذا وقت يكون طويلاً، لكن نحن ضعفاء، فيدعو الإنسان ولو دعاء قصيراً، ولو لمدة دقيقتين أو ثلاث أو خمس دقائق أو أقل، والسنة التطويل، لكن لا نستطيع أن نجلس مثلما جلس النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قريباً منه عليه الصلاة والسلام، فهو دعا دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، يعني: وقت طويل، وهذا صبر عظيم! ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك سبع حصيات متعاقبات، ويستقبل القبلة إن تيسر، وإلا ففي أي جهة، ثم يجعلها عن يساره ويتقدم فيستقبل القبلة، ويرفع يديه ويدعو دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا، لكن المسلم يفعل ما يستطيع.
ثم يرمي جمرة العقبة، وذكر المؤلف أنه يستقبل القبلة، والصواب: أنه لا يستقبل القبلة، وإنما يستقبل الوادي ويجعل العقبة أمامه، ولا يقف عندها ولا يدعو.
واختلف العلماء في الحكمة، فقال بعضهم: لأن المكان ضيق، فجمرة العقبة كانت متكئة على جبل، فأزيل هذا الجبل، ولما كان المكان ضيقاً ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدع عندها؛ لأنه قد انتهت العبادة، فالجمرة الصغرى والوسطى دعا فيها لأنه ما زال في صلب العبادة، كما لو كان في الصلاة، فلما رمى جمرة العقبة انتهت العبادة فانصرف، كما لو انصرف من الصلاة، وهذا هو الصواب، ولهذا الدعاء في صلب الصلاة أفضل من الدعاء بعد الصلاة.
ويفعل هذا الفعل في كل من الأيام الثلاثة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إن تأخر، وإن تعجل في اليوم الثاني عشر وخرج قبل غروب الشمس سقط رمي يوم الثالث عشر، ويستمر الرمي من زوال الشمس إلى الغروب، فهذا متفق عليه، وأما الرمي في الليل فالمذهب أنه ممنوع.
والقول الثاني: أنه لا بأس بالرمي بالليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد أول الرمي ولم يحدد آخره، وعلى هذا فيستمر الرمي من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وتكون الليلة تابعة لليوم الثاني، ليلة الحادي عشر تابعة لليوم العاشر يوم العيد، فيكون يوم العيد من طلوع الشمس إلى غروبها، ومن الغروب إلى الفجر تابع ليوم العيد، وليلة الثاني عشر تكون تابعة لليوم الحادي عشر، وليلة الثالث عشر تابعة لليوم الثاني عشر.
أما اليوم الثالث عشر فليس هناك رمي في الليل؛ لأن الرمي من زوال الشمس إلى الغروب في اليوم الأخير، لأنه بغروب الشمس تنتهي أيام الرمي والذبح وأيام الحج، وليس هناك رمي في الليل في اليوم الثالث عشر.
والذي عليه فتوى هيئة كبار العلماء بالأغلبية أن الرمي في الليل جائز، والمذهب منع الرمي في الليل، ولكن القول الثاني -وهو قول الأئمة الثلاثة- أنه لا بأس بالرمي في الليل، وهذا هو الذي يتفق مع سماحة الشريعة ويسرها، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، ولا يكفي الآن الوقت من زوال الشمس إلى غروبها بسبب العدد الكثير من الحجاج، فإذا كانوا مليوناً ونصف فلا يتمكنون من الرمي من زوال الشمس إلى غروبها.
وأما من وكل بالرمي للجمرات، فبعض العلماء -وهو المذهب- يرى أنه يرمي الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة عن نفسه، ثم يرجع فيرمي الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة عن موكله الأول، وإذا وكله آخر أيضاً يعود، وإذا وكله ثالث يرميها ثلاثاً ثم يرجع.
والقول الثاني: أنه يرمي الجمرة الصغرى عن نفسه، ثم يرميها عن موكله، ثم يرمى جمرة الوسطى عن نفسه، ثم يرميها عن موكله، ثم يرمي جمرة العقبة عن نفسه، ثم يرميها عن موكله، ولعل هذا لا بأس به لاسيما مع الزحام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك].
أما من طلوع الفجر إلى زوال الشمس فهذا ليس فيه رمي، وليس وقتاً للرمي بالاتفاق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب].
خرج قبل غروب الشمس من منى، والمراد خروجه من منى إذا تجاوز جمرة العقبة، بل جمرة العقبة ليست من منى، وإنما هي في حد منى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غد].
إذا غربت الشمس وهو لم يتعجل لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث عشر، وإن بات باختياره ورمى فهو أفضل، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:٢٠٣].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن كان متمتعاً أو قارناً فقد انقضى حجه وعمرته].
نعم، لأنه طاف وسعى ورمى وحلق، وانتهى من الرمي، ولم يبق إلا طواف الوداع.
[وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه].
هذا إذا كان مفرداً بأن أحرم بالحج، وبقي عليه العمرة، أما إذا كان قارناً ومتمتعاً فقد جمع الحج والعمرة، فالمتمتع له عمرة مستقلة قبل الحج، والقارن عمرته داخلة في الحج، وبقي المفرد وهو الذي أحرم بالحج فقط، بقي عليه العمرة فإنها تبقى في ذمته، وليس لها وقت فإذا أحب أن يخرج إلى التنعيم ويأتي بعمرة أداها، وإن أتى بعمرة في رمضان أو في أي وقت كفى، ولا تجب العمرة إلا مرة، وأما ما ذكره المؤلف من كونه يخرج إلى التنعيم ويأتي بالعمرة فهذا تركه أولى ولاسيما في وقت الحج؛ لأنه يكون هناك زحام كثير من الناس الذين يخرجون إلى التنعيم، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يشرع لمن كان بمكة أن يأتي بعمرة، والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما فعلوا هذا، وما فعل هذا إلا عائشة لما ألحت وطلبت وقالت: (يا رسول الله! يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج!)، فهي كانت قارنة، لكنها تريد عمرة مستقلة، فأعمرها النبي صلى الله عليه وسلم من التنعيم، فقال شيخ الإسلام: ليس بمشروع أن يخرج من مكة ويأتي بعمرة، وإنما المشروع لمن كان بمكة أن يتعبد بالطواف والقراءة، والعمرة إنما هي ل