للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحكام تتعلق بالدين]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: أحكام الدين.

من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله].

إذا كان على الإنسان دين مؤجل فإن صاحب الدين ليس له أن يطالبه به قبل أجله؛ لأن من حقه أن يؤخر قضاءه حتى يحل الأجل؛ لأن الأجل من حق المدين، فليس للدائن أن يطالبه قبل حلول الأجل؛ إلا أن يسافر ويخشى أن يسلم الدين قبل مجيئه أو يغلب على ظنه أنه لا يجيء، فإنه يمنعه -كما سيأتي- من السفر حتى يوثق دينه، أما أن يطالبه قبل حلول الأجل فليس له ذلك؛ لأن المدة من حق المدين.

فلو اشترى منه السلعة بثمن مؤجل إلى رمضان فلا يحق له أن يطالبه بالثمن في رجب أو في شعبان؛ لأن بينهما عقداً فلا يطالب حتى يأتي رمضان.

وإذا دفع الدين مؤجلاً فإن للمقرض أن يتفق معه حتى يسقط عنه بعض دينه فهذا حسن، وهذه مسألة بع وتعجل، فمثلاً: لو كان له دين مؤجل إلى رمضان وقدره عشرة آلاف، فلما كان في شهر محرم صار المقرض محتاجاً للمال، فيسقط عنه ألفين، فأعطاه المقترض ثمانية آلاف وسامحه المقرض في ألفين فهذا لا بأس به، فهو أبرأه من بعض حقه وهذا قبل حلول الأجل.

قال: [ولم يحجر عليه من أجله].

أي: لا يحجر عليه؛ لأنه ما حل وقت سداد الدين.

قال: [ولم يحل بتفليسه].

أي: إذا صار المدين فقيراً فلا يحل الدين المؤجل بتفليسه، فلو أن شخصاً له دين مؤجل على شخص إلى رمضان وأفلس المدين فلا يحل المؤجل بتفليسه.

فلا يطالبه قبل حلول الأجل من أجل كونه أفلس، لأن من حقه أن يتمتع بهذا الأجل.

قال: [ولا بموته إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل].

كذلك إذا مات المدين فلا يحل الدين إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل، فلو أعطاه الورثة رهناً أو كفالة فإن الدين يبقى على أجله؛ لأنه توثق برهن أو كفيل.

قال: [وإن أراد سفراً يحل قبل مدته، أو الغزو تطوعاً فلغريمه منعه إلا أن يوثق بذلك].

لأنه يخشى في هذه الحالة ألا يعطيه حقه.

والرواية الأخرى: أنه إذا قدم من سفر قبل حلول الدين فليس له أن يطالبه، وعلى هذه الرواية أنه إذا خشي ألا يعطيه إذا غزى أو سافر، حتى ولو قال أنه سيرجع قبل حلول الدين فإن له أن يمنعه من السفر حتى يوثقه، فيقول له: لا تسافر، فإن قال له: سأرجع قبل حلول الدين، قال: ما ندري ترجع أو ما ترجع، أريد منك أن توثق بكفيل أو رهن، فله في هذه الرواية أن يمنعه حتى يوثقه دينه برهن أو كفيل، وعلى الرواية الأخرى أنه ليس له ذلك مادام أنه سيقدم قبل حلول الدين.

قال: [وإن كان الدين حالاً على معسر وجب إنظاره].

أي: إذا حل الدين والمدين فقير فلا يجوز لصاحب الدين إيذاؤه ولا حبسه مادام أنه معسر؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، يعني: فأنظروه إلى أن ييسر الله له، ولا يجوز حبسه ولا إيذاؤه ويأثم بذلك؛ لأنه لا حيلة له فيه، ولا يفيد الحبس ما دام أنه ليس عنده شيء، بل تركه أولى حتى يترك له مجالاً لعله يكسب ويوفي الدين.

أما إذا عرف أنه مماطل وعنده مال فهذا يحبس حتى يسلم الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته).

وقرابة المعسر لا يدفعون عنه؛ أما في دية الخطأ فإنهم يدفعون عنه.

والراجح أنه لا يجوز له إيذاؤه ولا حبسه إذا تحقق أنه معسر للآية.

قال: [فإن ادعى الإعسار حُلف وخلي سبيله].

أي: إذا ادعى الإعسار، وصاحب الدين لا يدري هل هو معسر أم لا؟ حلف المدعي أنه معسر فلو حلف يقبل يمينه ويخلي سبيله، هذا إن كان ما يعلم حاله.

وهذا يكون عند القاضي، فيقول القاضي: هات بينة تثبت أنك معسر، فلو قال: ما عندي بينة، قال له القاضي: ما لك إلا اليمين، فيحلف أنه معسر ويخلى سبيله.

قال: [إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة].

أي: إلا أن يعرف أن له مالاً فلا يقبل ادعاؤه الإعسار إلا بدليل أو بينة، وإذا كان عنده بيت ملك فإنه لا يباع؛ لأنه من الضروريات، وهذا هو الظاهر؛ إلا إذا كان البيت زائداً عن حاجته أو حاجة أمثاله، كأن يكون بيتاً كبيراً فيلزم بيعه ويشتري بيتاً مناسباً صغيراً ويوفي الدين.

ولا يقبل قوله أنه ما عنده مال إلا ببينة.

قال: [فإن كان موسراً لزمه وفاؤه، فإن أبى حبس حتى يوفيه].

أي: إذا كان معروفاً أنه غني وامتنع عن وفاء الدين، لزمه وفاء الدين، فإن أبى حبس من جهة القاضي أو الحاكم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)، أي: امتناع الغني عن وفاء الدين لمستحقه ومماطلته له يحل عرضه، فيقول: فلان منعني حقي (وعقوبته) أي: حبسه حتى يوفي الحق الذي عليه؛ لأنه ظالم.

قال: [فإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم].

إذا كان ماله قليلاً وأفلس وطلب الغرماء أصحاب الديون من الحاكم أو القاضي أن يحجر عليه، فللحاكم أو القاضي أن يجيب طلبهم فيحجر عليه.

والحجر عليه معناه: أن يمنعه من التصرف في أمواله فلا يحق له أن يبيع أو يشتري حتى يوفي الديون التي عليه.

قال: [فإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله، ولم يقبل إقراره عليه].

لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ.

وإذا أعلن الحاكم أو القاضي الحجر على فلان فلا يجوز تصرفه، فلو باع لا يصح البيع، والحاكم هو الذي يتولى جمع أمواله وبيعها وإعطاءها الغرماء.

وإذا حجر الحاكم عليه في طلب الغرماء فإن الحكم ينفذ، فإذا باع بيته لا ينفذ البيع، فلو أقر أن فلاناً يطلبه عشرة آلاف مثلاً، فيقول له: إقرارك غير صحيح، وبيعك غير صحيح؛ لأنك محجور.

قال: [ويتولى الحاكم قضاء دينه، ويبدأ بمن له أرش جناية من رقيقه فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجاني].

أي: حينما تكون على الشخص ديون وله غرماء وقل ماله وأفلس وطلبوا أن يحجر عليه، وحجر عليه الحاكم، وهو الذي يتولى جمع أمواله ويبيعها، ويخصص لجنة تحصي أمواله وتسدد الديون، ويبدأ أولاً بمن له أرش جناية، فمثلاً إذا كان له عبد، لما كان العبيد موجودين، والآن العبيد لا يوجدون، ووجود العبيد يدل على قوة المسلمين، والعبيد إنما يوجدون إذا وجد الجهاد في سبيل الله وقاتل المسلمون الكفرة وغنموا أموالهم ونساءهم وذراريهم؛ أما والمسلمون ضعفاء فلا يوجد جهاد.

فلو كان له عبد واعتدى على شخص، أو اعتدى على دابته أو سيارته وأفسدها، فإذا جمع الحاكم أمواله فإنه يبدأ بمن له أرش جناية هذا العبد؛ لأن الجناية تعلقت في رقبته.

ولو قال الذي أفسد هذا العبد ماله: إن هذا العبد هو الذي أفسد سيارتي وأريد هذا العبد فيسلم له العبد، وينظر في ثمن السيارة التي أفسدها وثمن العبد، فإذا وجدنا أن ثمن السيارة عشرة آلاف والعبد خمسة عشر ألفاً يعطى عشرة آلاف، وإذا وجدنا أن ثمن العبد عشرة آلاف والسيارة خمسة عشر ألفاً، يسلم له العبد فيأخذ العبد كاملاً وينتقل إليه؛ لأن هذه الجناية تعلقت برقبة الجاني.

فإن كان ثمن العبد أقل سلم له العبد فيأخذه ويكون من أمواله؛ وإن كان ثمن العبد أكثر نعطيه القيمة والعبد يبقى لصاحبه؛ لأن الجناية تعلقت برقبة العبد وأرش الجناية هنا بين القيمة وثمن العبد فيدفع له أقل الأمرين، فإن كان ثمن السيارة أقل نعطيه ثمن السيارة، وإن كان ثمن السيارة أكثر يسلم العبد لصاحب السيارة، والباقي يكون للغرماء الآخرين.

قال: [ثم بمن له رهن فيدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو ثمن رهنه].

ثم يبدأ أيضاً بالمرتبة الثانية وهي: الدين الذي به رهن، ونوفي صاحب الدين ونعطيه الأقل، فلو رهن سيارة قيمتها عشرة آلاف، ودينه يساوي خمسة عشر ألفاً يسلمه الرهن مثل العبد، وإن كانت السيارة أكثر من الدين سلم له الدين وتبقى السيارة للمدين، فتكون الخطوات المتبعة في ذلك ما يلي: الأولى: يبدأ بمن له أرش جناية.

الثانية: الدين الذي به رهن.

قال: [وله أسوة الغرماء في بقية دينه].

أي: الباقي من الدين يكون للغرماء بالنسبة.

قال: [ثم من وجد متاعه الذي باعه بعينه لم يتلف بعضه، ولم يزد زيادة متصلة، ولم يأخذ من ثمنه شيئاً فله أخذه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره)].

هذا هو الأمر الثالث: من وجد متاعه بعينه فله أخذه بشروط: ألا يتغير، ولا يزيد زيادة متصلة، ولا يأخذ من ثمنه شيئاً، فمثلاً باع إنسان سيارة على شخص بعشرة آلاف وأفلس وحجر عليه الحاكم وطلب الغرماء فجاء صاحب السيارة وقال: هذه سيارتي بعينها ما تغيرت أي ما زاد ولا نقص من ثمنها شيء، فله أن نسلمها إياه؛ لأنه وجد متاعه بعينه للحديث: من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به.

أما إذا أخذ جزءاً من ثمنها أو تغيرت السيارة أو عمل فيها أو باعها، ثم رجع فيها مرة أخرى ففي هذه الحالة لا تعطى له بخلاف ما لو كانت دابة زاد ثمنها.

فمن وجد متاعه بعينه فله أخذه بشرط: أنه ما زاد فيه شيء ولا قبض من ثمنه شيئاً، ولم يتغير المبيع بحال أو بصفة من الصفات، وألا يتعلق بحق غيره فليس له أن يأخذه، وأن يكون المفلس حياً فلو توفي وجاء أولاده يطالبون فلا يحق لهم.

قال: [ويُقْسَمْ الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم].

أي: يقسم الباقي بالنسبة، فلو أن شخصاً عليه دين وقدره مليون ريال ثم حجر عليه، وجمعنا ماله ووجدناه مائة ألف، ولغريمه الأول مائة ألف، والثاني: خمسمائة ألف، والثالث: أربعمائة ألف، فنقسم المائة ألف هذه بالنسبة، فالذي يطلبه مائة ألف نسبته العشر فنعطيه من المائة عشرة آلاف، والذي يطلبه خمسمائة ألف نعطيه خمسة آلاف؛ لأن نسبته نصف العشر، والذي يطلبه أربعمائة ألف نعطيه أربعة آلاف، وباقي الدين حتى ييسر الله، فهذه نسبة الغرماء، والذي له دراهم أخذها، والذي وجد ماله بعينه أخذه قبل أن توزع الديون أو تقسم وكذلك العبد الذي تعلق برقبته شيء يسلم له إياه، وليس لهم إلا هذا، وإن جاءه شيء من المال قسم مرة ثانية، وإن لم يأت شيء يبقى هكذا حتى ييسر الله.

قال: [وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته من ماله إلى أن يفرغ من القسمة].

أي: أن الحاكم الذي يجمع ا