للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كريمته، ويولّى أمرها غير نفسه، ورأينا من يجاوز ذلك إلى ألّا ينكح مستنكحا، وزاد به العلوّ إلى ترك ما ذكره أولى؛ وكنا عرفنا حال إنسان تزوّجت أمه؛ فعظم لذلك همّه، وانفرد عن أودّائه، وتوارى عن أصفيائه؛ حياء من لقائهم، وكرها لتهنئتهم له أو عزائهم، واضطرّته الوحشة إلى قصد من ظنّ به منهم المسكة في تحامى خطابه فيما اجتنب لأجله خلّانه، وفارق بسببه إخوانه، وتخيّل ذلك المقصود أنه إنما لجأ إليه ليسلّيه؛ فأفاض معه فيما قدّر أنه قصد له من المعنى الذى جعله وحيدا خوف المفاوضة.

ثم مضت الأيام واختلف الحال، ورجع إلى العشرة وأبناء المودّة؛ فكان عنده من لم يخاطبه أحظى، وفي نفسه أوفى، وعلى قلبه أخفّ، وفي نفسه أشفّ، ونقم على ذلك الصديق وعتب؛ إذ لكلّ من الناس- إلا من طاب محتده وطال سؤدده- حال من الإلف والرغبة تحسّن المساوى، ثم حال من الملل والزّهادة تقبّح المحاسن؛ واعتذر المتكلّف من التسلية بما لم يلزمه، ولم يرده صفيّه، فإنه فعل ما أوجبته الأخوّة، وحقوق الخلطة، وأسباب العشرة، وانبساط المفاوضة؛ ودبّت عقارب الظنون والوشاية، إلى أن خرجا بالملاحاة إلى المعاداة؛ فلما وقع بعض الناس بينهما من معاودة الحسنى، ومراجعة الأولى؛ جاهر هذا الماقت بقرع سنّ الأسف على تخيّل النهى والوقار من الممقوت، وظاهر الممقوت بتقريع الماقت، بتزويج أمّه الذى تجشّم من كلامه فيه فضلا، وتكلّف من خطابه عليه ما من حسرة خلا؛ فأفضى الأمر بينهما إلى الأوتار، وطلب الثّار.

فإن اضطرّ إلى القول في هذا المعنى أحد بأمر قاهر من السلطان، أو حوادث الأزمان، أو تطارح الإخوان، فليقل وليكتب ما مثّلنا إن لم يجد منه بدّا: أنت- بفضل الله عليك وإحسان تبصيره إياك- من أهل الدّين، وخلوص اليقين، فكما لا تتّبع الشهوة فى محظور تبيحه، فكذا لا تتّبع الأنفة في مباح تحظره؛ وقد اتّصل بنا اختاره الله والقضاء لذات الحقّ عليك، المنسوبة- بعد نسبك إليها- إليك،

<<  <  ج: ص:  >  >>