أخذ هذا المعنى بعض أصحاب أبى العباس ثعلب فقال يهجو المبرد:
ويوم كتنّور الطّهاة سجرته ... على أنه منه أحرّ وأوقد
ظللت به عند المبرّد جالسا ... فمّا زلت في ألفاظه أتبرّد
قال الأصمعى: حجّت أعرابية ومعها ابن لها، فأصيبت به، فلما دفن قامت على قبره، وهي موجعة فقالت: والله يا بنىّ لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مدة ألتذّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النّضارة والغضارة ورونق الحياة والتنسّم في طيب روائحها، تحت أطباق الثّرى جسدا هامدا، ورفاتا سحيقا، وصعيدا جرزا؛ أى بنى! لقد سحبت الدنيا عليك أذيال الفناء، وأسكنتك دار البلى، ورمتنى بعدك نكبة الرّدى، أى بنى! لقد أسفر لى وجه الدنيا عن صباح داج ظلامه.
ثم قالت: أى ربّ ومنك العدل، ومن خلقك الجور، وهبته لى قرّة عين، فلم تمتّعنى به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا؛ ثم أمرتنى بالصبر، ووعدتنى عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فرحم الله من ترحّم على من استودعته الرّدم، ووسّدته الثّرى؛ اللهم ارحم غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تكشف الهنات والسّوءات.
فلما أرادت الرجوع إلى أهلها وقفت على قبره، فقالت! أى بنىّ! إنى قد تزوّدت لسفرى، فليت شعرى ما زادك لبعد طريقك، ويوم معادك؟ اللهم إنى أسألك له الرضا برضائى عنه. ثم قالت: استودعتك من استود عنيك في أحشائى جنينا؛ واثكل الوالدات! ما أمضّ حرارة قلوبهن، وأقلق مصاجعهنّ، وأطول ليلهنّ، وأقصر نهارهن، وأقلّ أنسهن، وأشدّ وحشتهنّ، وأبعدهنّ من السرور، وأقربهن من الأحزان.
لم تزل تقول هذا ونحوه حتى أبكت كلّ من سمعها. وحمدت الله عز وجل واسترجعت وصلت ركعات عند قبره وانطلقت.