وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة؛ أن يقال: إن العذاب لا يلزم منه العقوبة، ولا يراد به العقوبة، ويؤتى بالشاهد أن السفر قطعة من العذاب، ولكن هذا في غير البكاء الذي تمليه الطبيعة، ويحصل للإنسان بدون اختيار، فإن مثل هذا لا يؤلم أحدًا؛ لأنه مما جرت به العادة، حتى الإنسان لا يتألم إذا رأى المصاب يبكي هذا البكاء المعتاد، وإنما يتألم إذا بكى بكاء متكلَّفًا أو زائدًا عن العادة، فإنه يتألم ويرحم هذا الباكي.
إذن البكاء على الميت حكمه الجواز إذا كان مما أملته الطبيعة لا متكلَّفًا، فإن كان متكلَّفًا فإني أخشى أن يكون من النياحة.
ثم قال المؤلف رحمه الله:(ويحرم الندب).
بقينا قبل أن نتجاوز البكاء، هل يجوز للمصاب أن يُحِدَّ على الميت بأن يترك تجارته، أو يترك ثياب الزينة، أو يترك الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟
والجواب: أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل، إلا على الزوجة، فإنه يجب عليها أن تُحِدَّ مدة العدة؛ أربعة أشهر وعشرة أيام، إن لم تكن حاملًا، وإلى وضع الحمل إن كانت حاملًا.
وإنما جاز هذا الإحداد لغير الزوجة لإعطاء النفوس بعض الشيء مما يُهَوِّن عليها المصيبة؛ لأن الإنسان إذا أصيب ثم كُبِتَ بأن قيل: اخرج وامشِ على ما أنت عليه، فإنه ربما تبقى المصيبة في قلبه.
ولهذا يقال: إن من جملة الأدب والتربية بالنسبة للصبيان أنه إذا أراد أن يصيح خَلُّوه يصيح أحسن، من أجل أن يرتاح؛ لأنه يُخْرِج ما في قلبه، وهو وإن صاح مدة قصيرة ثم سكت بنفسه فإنه يذهب ما في نفسه، لكن لو سَكَّتَّه أنت صار عنده كَبْتٌ وانكماش نفسي.
فكذلك رَخَّصَ الشرع للإنسان أن يُحِدَّ دون الثلاث، أما ما زاد على الثلاث فلا يجوز إلا لذات الزوج.
لكن هل يجوز أن يُحِدَّ في أمر يلحقه به ضرر، أو يلحق عائلته به ضرر، مثل أن يكون رجلًا مُتَّجِرًا، ولو عطَّل التجارة لتضررت كفايته؟ نقول: لا، هذا ليس مباحًا، فهو إما مكروه وإما مُحَرَّم.