قال العلماء: إن (من) للتبعيض، و (حيث) ظرف مكان، يعني: أسكنوهن بعض ما سكنتم، أي: عندكم في البيت، وإن كانت بائنًا منه، ولا تُكَلَّفُون أكثر من ذلك، بل مِن وُجْدِكم.
أما النفقة فإن كانت حاملًا فلها النفقة، وإلا فلا، وهذا مذهب مالك والشافعي، ودلالة القرآن عليه قوية جدًّا.
لكنه يعكر عليه حديث فاطمة بنت قيس، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى»(٧)، فهذا نص صريح.
لكنه قد ورد في صحيح البخاري (٩) أنها رضي الله عنها كانت في بيتٍ وَحِشٍ، فأرادت الانتقال منه خوفًا على نفسها، ولما أرادت الانتقال فإنه لا يُلْزَم الزوج بأن يستأجر لها ما تسكنه، فهذا معنى قوله:«لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ سُكْنَى»(٧)، أي: لا تُلْزِمِينَه بأن يُسْكِنَك في بيت غير البيت الأول، ويكون في هذا جمع بين الآية الكريمة وبين الحديث.
وهذا لا شك أنه -في نظري- أقرب الأقوال؛ لأن ظاهر القرآن وسياق القرآن وإن كان ابن القيم رحمه الله يُلِحّ على أنها كلها في الرجعيات لكنه بعيد جدًّا؛ إذ إن الرجعية يُنْفَق عليها سواء كانت حاملًا أو حائلًا، والرجعية ما يقال: أَسْكِنْهَا حيث سَكَنْتَ، بل يقال: لا تخرجها من بيتها، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}.
فإن صح هذا التوفيق بين القرآن والسنة فالحمد لله، وهذا هو المتبادَر، والعلم عند الله.
وإن لم يصح فإن القول بأنه لا نفقة لها ولا سكنى إلا أن تكون حاملًا أقرب من القول بأن لها النفقة والسُّكْنى بكل حال؛ لأن القول بأن لها النفقة والسُّكْنى بكل حال قول ضعيف جدًّا، وإن كان قد ذهب إليه مَن ذهب مِن أكابر السلف، وكذلك هو مذهب أبي حنيفة، لكنه ضعيف.
فصارت المذاهب الآن ثلاثة: مذهب أبي حنيفة، ومذهب الإمام أحمد، ومذهب الشافعي الذي يفرِّق بين السُّكْنى وبين الإنفاق.
فيقول: إن السُّكنى واجب للبائن مطلقًا، والإنفاق واجب إن كانت حاملًا.