للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ الْمُبَاحَ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمَنْظُورُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ التَّوَقُّفُ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ كَثِيرًا مَا يَلْهَجُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ فَالتَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَيْهِ.

(الْبِدَايَةُ بِالنِّيَّةِ)

ــ

[رد المحتار]

قَالَ: لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَهُمَا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ أَنَّ السُّنَّةَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ إنْ كَانَتْ لَا مَعَ التَّرْكِ فَهِيَ دَلِيلُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ التَّرْكِ أَحْيَانًا فَهِيَ دَلِيلُ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَهِيَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ. اهـ. قَالَ فِي النَّهْرِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ هَذَا بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُوَاظَبُ عَلَيْهِ مِمَّا اخْتَصَّ وُجُوبُهُ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ أَمَّا إذَا كَانَ كَصَلَاةِ الضُّحَى فَإِنَّ عَدَمَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ التَّرْكِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُقَيَّدَ التَّرْكُ بِكَوْنِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا فِي التَّحْرِيرِ؛ لِيَخْرُجَ الْمَتْرُوكُ لِعُذْرٍ كَالْقِيَامِ الْمَفْرُوضِ.

وَكَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ لِأَنَّ التَّرْكَ لِعُذْرٍ لَا يُعَدُّ تَرْكًا. اهـ. (قَوْلُهُ: وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ إلَخْ) أَيْ عَلَى تَعْرِيفِ الشُّمُنِّيِّ، وَحَاصِلُهُ النَّقْضُ بِعَدَمِ الْمَنْعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ التَّوَقُّفُ، بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ، هَلْ هُوَ الْإِبَاحَةُ أَوْ الْحَظْرُ؟ لَا تُعْلَمُ إبَاحَةُ الْمُبَاحِ إلَّا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ فِعْلِهِ، فَيَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ السُّنَّةِ، إلَّا أَنْ يُزَادَ فِي التَّعْرِيفِ وَلَا مُبَاحَ. قَالَ ط: وَكَذَا يَرِدُ الْمُبَاحُ عَلَى الْقَوْلٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَظْرُ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ الْإِيرَادِ. قَالَ فِي الصِّحَاح: اللَّهَجُ بِالشَّيْءِ الْوَلُوعُ بِهِ، وَقَدْ لَهِجَ بِالْكَسْرِ يَلْهَجُ لَهَجًا: إذَا غُرِيَ بِهِ. اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِهِ كَثِيرًا

ط. مَطْلَبٌ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ

أَقُولُ: وَصَرَّحَ فِي التَّحْرِيرِ بِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ اهـ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ فَصْلِ الْحِدَادِ، وَفِي الْخَانِيَّةِ مِنْ أَوَائِلِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَهُوَ قَوْلُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ لَا سِيَّمَا الْعِرَاقِيِّينَ. قَالُوا: وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ هَدَّدَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ بِقَوْلِهِ: خِفْت أَنْ يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ لَمْ يُحَرَّمَا إلَّا بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا، فَجَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضِ النَّهْيِ. اهـ.

وَنُقِلَ أَيْضًا أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِلشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ فِي شَرْحِ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ، وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِحِ فِي بَابِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّ الْإِبَاحَةَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ نَظَرٌ، فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: فَالتَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ.

أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ نَافِعٌ فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ، وَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَمَّا مَا نَصَّ عَلَى إبَاحَتِهِ أَوْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يَنْفَعُ، وَقَدْ نَصَّ فِي التَّحْرِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ يُطْلَقُ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي التَّعْرِيفِ مَا ثَبَتَ ثُبُوتُ طَلَبِهِ لَا ثُبُوتُ شَرْعِيَّتِهِ، وَالْمُبَاحُ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ، وَأَنَّمَا هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: الْبِدَايَةُ) قِيلَ: الصَّوَابُ الْبُدَاءَةُ بِالْهَمْزَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقَامُوسِ مِنْ الْيَائِيِّ، وَبَدَيْتُ بِالشَّيْءِ وَبَدِيتُ ابْتَدَأْت اهـ أَيْ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا. مَطْلَبٌ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ وَالْعَزْمِ

(قَوْلُهُ: بِالنِّيَّةِ) بِالتَّشْدِيدِ وَقَدْ تُخَفَّفُ قُهُسْتَانِيٌّ. وَهِيَ لُغَةً عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ. وَاصْطِلَاحًا كَمَا فِي التَّلْوِيحِ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إيجَاد الْفِعْلِ، وَدَخَلَ فِيهِ الْمَنْهِيَّاتُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ كَفُّ النَّفْسِ، الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ اسْمٌ لِلْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ، لَكِنْ الْعَزْمُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْفِعْلِ وَالْقَصْدُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ وَالنِّيَّةُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْمَنْوِيِّ، وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>