انْعَزَلَ عَنْ الْقَضَاءِ وَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا غَلَبَ جَوْرُهُ وَرِشْوَتُهُ رُدَّتْ قَضَايَاهُ وَشَهَادَتُهُ
[فُرُوعٌ] الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً فَسَمِعَهَا لَمْ يَنْفُذْ.
قُلْت: فَلَا تُسْمَعُ الْآنَ بَعْدَهَا إلَّا بِأَمْرٍ
ــ
[رد المحتار]
الْقَاضِي وَالْمُدَّعِي، أَمَّا مَعَ الْمُدَّعِي فَلِأَنَّهُ أَثِمَ بِأَخْذِ الْمَالِ وَأَمَّا مَعَ الْقَاضِي فَلِأَنَّهُ أَثِمَ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا، وَبَعْضُ أَذْكِيَاءِ خُوَارِزْمَ قَاسَ الْمُفْتِيَ عَلَى الْقَاضِي فَأَوْرَدَتْ أَنَّ الْقَاضِيَ صَاحِبٌ مُبَاشِرٌ لِلْحُكْمِ فَكَيْفَ يُؤَاخَذُ السَّبَبُ مَعَ الْمُبَاشِرِ فَانْقَطَعَ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقَاضِيَ فِي زَمَانِنَا مُلْجَأٌ إلَى الْحُكْمِ بَعْدَ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ يُلَامُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ حَتَّى يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ بَزَّازِيَّةٌ قُبَيْلَ الشَّهَادَاتِ
قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى إلْجَاءً حَقِيقَةً وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَنْقَطِعَ النِّسْبَةُ عَنْ الْمُبَاشِرِ إلَى الْمُتَسَبِّبِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرَ بِإِتْلَافِ عُضْوٍ عَلَى أَخْذِ مَالِ إنْسَانٍ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ لِصَيْرُورَةِ الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ كَالْآلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَمْ تَنْقَطِعْ النِّسْبَةُ عَنْ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي، وَإِنْ أَثِمَ الْمُتَسَبِّبُ وَهُوَ الْمُفْتِي، وَلَا يُقَاسُ هَذَا عَلَى مَسْأَلَةِ تَضْمِينِ السَّاعِي إلَى ظَالِمٍ مَعَ أَنَّ السَّاعِيَ مُتَسَبِّبٌ لَا مُبَاشِرٌ فَإِنَّ تِلْكَ مَسْأَلَةٌ اسْتِحْسَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ زَجْرًا عَنْ السِّعَايَةِ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْكَلَامُ فِي الْخُصُومَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُبَاشِرِ وَالْمُتَسَبِّبِ ظَالِمٌ آثِمٌ وَلِلْمَظْلُومِ الْخُصُومَةُ مَعَهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَ ظُلْمُهُمَا فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ ظُلْمُهُ أَشَدُّ كَمَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ.
(قَوْلُهُ: انْعَزَلَ عَنْ الْقَضَاءِ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مَبْنِيَّانِ عَلَى رِوَايَةِ انْعِزَالِهِ بِالْفِسْقِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ.
(قَوْلُهُ: وَفِيهِ) لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الْمِنَحِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إلَى السِّرَاجِ.
(قَوْلُهُ: وَشَهَادَتُهُ) أَيْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ شَهَادَةً عِنْدَ الْقَاضِي الْمُوَلَّى لَا يَقْبَلُهَا لِفِسْقِهِ بِغَلَبَةِ الْجَوْرِ وَالرِّشْوَةِ فَافْهَمْ
[فُرُوعٌ الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ]
(قَوْلُهُ: الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ) لِأَنَّ الْحَقَّ الْمَحْكُومَ بِهِ كَانَ ثَابِتًا وَالْقَضَاءُ أَظْهَرَهُ وَالْمُرَادُ مَا كَانَ ثَابِتًا وَلَوْ تَقْدِيرًا كَالْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي تَعْرِيفِ الْقَضَاءِ عَنْ ابْنِ الْغَرْسِ. مَطْلَبٌ الْقَضَاءُ يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ
(قَوْلُهُ: وَيُتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ) عَزَاهُ فِي الْأَشْبَاهِ إلَى الْخُلَاصَةِ وَقَالَ فِي الْفَتْحِ مِنْ أَوَّلِ كِتَابِ الْقَضَاءِ: الْوِلَايَةُ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إذَا وَصَلْت إلَى بَلْدَةِ كَذَا فَأَنْتَ قَاضِيهَا وَإِذَا وَصَلْت إلَى مَكَّةَ فَأَنْتَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ، وَالْإِضَافَةَ: كَجَعَلْتُكَ قَاضِيًا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ، وَالِاسْتِثْنَاءَ مِنْهَا كَجَعَلْتُكَ قَاضِيًا إلَّا فِي قَضِيَّةِ فُلَانٍ وَلَا تَنْظُرْ فِي قَضِيَّةِ كَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِمَارَةِ وَإِضَافَتِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَ الْبَعْثَ إلَى مُؤْتَةَ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ «إنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ) وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي اهـ. مَطْلَبٌ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
(قَوْلُهُ: بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً) الْمُنَاسِبُ خَمْسَ عَشْرَةَ بِتَذْكِيرِ الْأَوَّلِ وَتَأْنِيثِ الثَّانِي لِكَوْنِ الْمَعْدُودِ مُؤَنَّثًا وَهُوَ سَنَةٌ وَأَجَابَ ط بِأَنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ السَّنَةِ بِالْعَامِ أَوْ الْحَوْلِ.
(قَوْلُهُ: فَلَا تُسْمَعُ الْآنَ بَعْدَهَا) أَيْ لِنَهْيِ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِهَا بَعْدَهَا فَقَدْ قَالَ السَّيِّدُ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ: أَخْبَرَنِي أُسْتَاذِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ يَحْيَى أَفَنْدِي الشَّهِيرُ بِالْمِنْقِارِيِّ أَنَّ السَّلَاطِينَ الْآنَ يَأْمُرُونَ قُضَاتَهُمْ فِي جَمِيعِ وُلَاتِهِمْ أَنْ لَا يَسْمَعُوا دَعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سِوَى الْوَقْفِ وَالْإِرْثِ اهـ. وَنَقَلَ فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِهَا بَعْدَ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ.