الْإِمَامُ شَرْطُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ كَالْحُدُودِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَفَرَّقَ الْفُقَهَاءُ أَشْبَاهَهُ، وَفِيهَا فِي قَاعِدَةِ: الْحُدُودِ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَكَالْحُدُودِ الْقِصَاصُ إلَّا فِي سَبْعٍ. يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ الْحُدُودِ. الْقِصَاصُ يُورَثُ وَالْحَدُّ لَا. يَصِحُّ عَفْوُ الْقِصَاصِ لَا الْحَدِّ. التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ بِالْقَتْلِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ. وَيَثْبُتُ بِإِشَارَةِ أَخْرَسَ وَكِتَابَتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ. تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْقِصَاصِ لَا الْحَدِّ.
ــ
[رد المحتار]
قَالَ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ لَا تَكُونُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالنَّدَامَةِ فَقَطْ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إرْضَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا لَا بُدَّ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْقِصَاصِ مِنْهُ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ مَجَّانًا، فَإِنْ عَفَوْا عَنْهُ كَفَتْهُ التَّوْبَةُ اهـ مُلَخَّصًا، وَقَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ يَبْرَأُ فِي الدُّنْيَا، وَهَلْ يَبْرَأُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ الطَّالِبُ وَأَبْرَأَتْهُ الْوَرَثَةُ يَبْرَأُ فِيمَا بَقِيَ؛ أَمَّا فِي ظُلْمِهِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يَبْرَأُ فَكَذَا الْقَاتِلُ لَا يَبْرَأُ عَنْ ظُلْمِهِ وَيَبْرَأُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ تَتَارْخَانِيَّةٌ.
أَقُولُ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظُّلْمَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَقْتُولِ بِهِ، وَأَمَّا ظُلْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيَسْقُطُ بِهَا تَأَمَّلْ.
وَفِي الْحَامِدِيَّةِ عَنْ فَتَاوَى الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَتَلَ مَظْلُومًا فَاقْتَصَّ وَارِثُهُ أَوْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ أَوْ مَجَّانًا هَلْ لِلْقَاتِلِ بَعْدَ ذَلِكَ مُطَالَبَةٌ فِي الْآخِرَةِ الْجَوَابُ: ظَوَاهِرُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي سُقُوطَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْآخِرَةِ اهـ، وَكَذَا قَالَ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ: ظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ.
وَقَالَ فِي مُخْتَارِ الْفَتَاوَى: الْقِصَاصُ مُخَلِّصٌ مِنْ حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَيُخَاصِمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ بِالْقِصَاصِ مَا حَصَلَ فَائِدَةٌ لِلْمَقْتُولِ وَحَقُّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ اهـ وَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِمَا اسْتَظْهَرْتُهُ (قَوْلُهُ وَفَرَّقَ الْفُقَهَاءُ) أَيْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ فَيُشْتَرَطُ الْإِمَامُ لِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ دُونَ الْقِصَاصِ حَمَوِيٌّ. قَالَ فِي الْهِنْدِيَّةِ: وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قِصَاصًا قَضَى الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ اهـ ط (قَوْلُهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ فِي الْقِصَاصِ) مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ. وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا حَمَوِيٌّ اهـ ط وَسَيَذْكُرُهُ الشَّارِحُ فِي أَوَّلِ جِنَايَاتِ الْمَمْلُوكِ (قَوْلُهُ الْقِصَاصُ يُورَثُ) سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ (قَوْلُهُ لَا الْحَدِّ) شَمِلَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ. أَمَّا قَبْلَهَا فَهُوَ جَائِزٌ. وَفِي الْحَاوِي إذَا ثَبَتَ الْحَدُّ لَمْ يَجُزْ الْإِسْقَاطُ، وَإِذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ عَنْ الْقَاذِفِ فَعَفَوْهُ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ اهـ إلَّا إذَا قَالَ لَمْ يَقْذِفْنِي أَوْ كَذَبَ شُهُودِي فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا فِي الْبَحْرِ عَنْ الشَّامِلِ وَالْمُرَادُ مِنْ بُطْلَانِ الْعَفْوِ أَنَّهُ إذَا عَادَ وَطَلَبَهُ حُدَّ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ كَانَ لَغْوًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخَاصِمْ إلَى الْآنَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ بَعْدَ ذَهَابِ الْمَقْذُوفِ وَعَفْوِهِ، أَفَادَهُ أَبُو السُّعُودِ فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ ط (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْحَدِّ) فَإِنَّ التَّقَادُمَ يَمْنَعُهُ وَالتَّقَادُمُ فِي الشُّرْبِ بِذَهَابِ الرِّبْحِ، وَفِي حَدِّ غَيْرِهِ بِمُضِيِّ شَهْرٍ وَقَدْ مَضَى فِي الْحُدُودِ ط (قَوْلُهُ لَا الْحَدِّ) فَلَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ لِلْحَاكِمِ أَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ فَتَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَثْبُتْ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَفِي الْبِيرِيِّ قَالَ الْأَكْمَلُ فِي حَدِيثِ «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» وَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ الْحُدُودَ فَتَبْقَى الشَّفَاعَةُ لِأَرْبَابِ الْحَوَائِجِ الْمُبَاحَةِ كَدَفْعِ الظُّلْمِ أَوْ تَخْلِيصِ خَطَأٍ وَأَمْثَالِهِمَا، وَكَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute