بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَحَسْبُك مِنْ مَنَاقِبِهِ اشْتِهَارُ مَذْهَبِهِ مَا قَالَ قَوْلًا إلَّا أَخَذَ بِهِ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحُكْمَ لِأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ زَمَنِهِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ، إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
ــ
[رد المحتار]
قَدْ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ بِلَا شَكٍّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الشَّامِيِّ صَاحِبِ السِّيرَةِ وَشَيْخِهِ السُّيُوطِيّ، كَمَا حُمِلَ حَدِيثُ «لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا» عَلَى الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَكِنْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ حَقِيقٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَكَمَا حُمِلَ حَدِيثُ «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ الْمُنْفَرِدِينَ فِي زَمَنِهِمْ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا مَحْمَلٌ إلَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ كَمَا أَفَادَهُ ط.
وَأَمَّا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ حَيْثُ الصُّحْبَةُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ وَنَشْرِ الدِّينِ وَتَدْوِينِ أَحْكَامِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَدِّي فِي تَعْرِيفِ الْمُعْجِزَةِ هُوَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَعَلَيْهِ فَذَلِكَ كَرَامَةٌ لَا مُعْجِزَةٌ، فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: بَعْدَ الْقُرْآنِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعْظَمَ، أَيْ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ دَائِمَةُ الْإِعْجَازِ وَقَيَّدَ بِذَلِكَ وَإِنْ عَبَّرَ بِمِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مُسَاوَاةُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ لِتِلْكَ، فَإِنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَعْظَمِيَّةِ تَصْدُقُ بِالْمُسَاوَاةِ، فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ: اشْتِهَارُ مَذْهَبِهِ) أَيْ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مَذْهَبُهُ، كَبِلَادِ الرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالسِّنْدِ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَسَمَرْقَنْدَ.
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ فِيهَا تُرْبَةَ الْمُحَمَّدِينَ، دُفِنَ فِيهَا نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ نَفْسٍ كُلٌّ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، صَنَّفَ وَأَفْتَى وَأَخَذَ عَنْهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَلَمَّا مَاتَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مَنَعُوا دَفْنَهُ بِهَا فَدُفِنَ بِقُرْبِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ نَقَلَ مَذْهَبَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ نَفَرٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ أَصْحَابٌ وَهَلُمَّ جَرَّا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ مِثْلُ مَا ظَهَرَ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْأَصْحَابِ وَالتَّلَامِيذِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ الْعُلَمَاءُ وَجَمِيعُ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا انْتَفَعُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فِي تَفْسِيرِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَالْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَالنَّوَازِلِ وَالْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، جَزَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الْخَيْرَ التَّامَّ. وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَرْجَمَتِهِ ثَمَانَمِائَةٍ مَعَ ضَبْطِ أَسْمَائِهِمْ وَنَسَبِهِمْ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. اهـ.
(قَوْلُهُ: قَوْلًا) أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ ط.
(قَوْلُهُ: إلَّا أَخَذَ بِهِ إمَامٌ) أَيْ مِنْ أَصْحَابِهِ تَبَعًا لَهُ، فَإِنَّ أَقْوَالَهُمْ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُوَافَقَةً فِي اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا أَفَادَهُ ط.
(قَوْلُهُ: مِنْ زَمَنِهِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ) فَالدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ مَذْهَبَ جَدِّهِمْ، فَأَكْثَرُ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِ إسْلَامِهَا حَنَفِيَّةٌ، يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَ التَّوَارِيخِ وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا.
وَأَمَّا الْمُلُوكُ السَّلْجُوقِيُّونَ وَبَعْدَهُمْ الْخَوَارِزْمِيُّونَ فَكُلُّهُمْ حَنَفِيُّونَ وَقُضَاةُ مَمَالِكِهِمْ غَالِبُهَا حَنَفِيَّةٌ. وَأَمَّا مُلُوكُ زَمَانِنَا سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ، أَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى دَوْلَتَهُمْ مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ فَمِنْ تَارِيخِ تِسْعِمِائَةٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَا يُوَلُّونَ الْقَضَاءَ وَسَائِرَ مَنَاصِبِهِمْ إلَّا لِلْحَنَفِيَّةِ قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ ادِّعَاءُ التَّخْصِيصِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، حَتَّى يَرِدَ أَنَّ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ إلَى زَمَنِ الظَّاهِرِ بِيبَرْسَ البندقداري فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) تَبِعَ فِيهِ الْقُهُسْتَانِيَّ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ أَهْلُ