للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَهُمْ تَبَعٌ، وَكُلُّ مَا خَالَفَ مَا اعْتَمَدُوهُ مَرْدُودٌ وَمُبْتَدَعٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ بِمُشَارَكٍ وَمِمَّا قَالَ فِيهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

لَقَدْ زَانَ الْبِلَادَ وَمَنْ عَلَيْهَا ... إمَامُ الْمُسْلِمِينَ أَبُو حَنِيفَهْ

بِأَحْكَامٍ وَآثَارٍ وَفِقْهٍ ... كَآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى صَحِيفَهْ

ــ

[رد المحتار]

سَنَدِهِ بِهَذَا الْإِمَامِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فَخْرُ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِذَلِكَ وَتَبِعُوهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَاقْتَدَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقَتِهِ وَمَذْهَبِهِ.

(قَوْلُهُ: فَلَهُمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَبِعَ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ بِمَعْنَى تَابِعٌ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَنْ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهَا الْفَاءُ لِأَنَّ مَنْ فِيهَا مَعْنَى الْعُمُومِ فَأَشْبَهَتْ الشَّرْطِيَّةَ.

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ مَا) أَيْ كُلُّ رَأْيٍ.

(قَوْلُهُ: مَا اعْتَمَدُوهُ) مِنْ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالِافْتِخَارِ بِهِ مِنْ حَيْثُ أَخْذُ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ عَنْهُ.

(قَوْلُهُ: وَمُبْتَدَعٌ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ مُحْدَثٌ لَمْ يُسْبَقْ بِنَظِيرٍ.

(قَوْلُهُ: وَبِالْجُمْلَةِ) أَيْ وَأَقُولُ قَوْلًا مُلْتَبِسًا بِالْجُمْلَةِ: أَيْ جُمْلَةَ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

(قَوْلُهُ: لَقَدْ زَانَ الْبِلَادَ إلَخْ) مِنْ الزَّيْنِ: وَهُوَ ضِدُّ الشَّيْنِ، يُقَالُ زَانَهُ وَأَزَانَهُ وَزَيَّنَهُ وَأَزْيَنَهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْبِلَادُ: جَمْعُ بَلَدٍ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ مُسْتَحِيزَةٌ عَامِرَةٌ أَوْ غَامِرَةٌ قَامُوسٌ وَمَنْ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَقَوْلُهُ بِأَحْكَامٍ مُتَعَلِّقٌ بِزَانَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَدْوِينَهَا وَتَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ سَبَبٌ لِلْعَمَلِ بِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِانْقِيَادَ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَعَمَلِ الْحُكَّامِ بِهَا وَالرَّعِيَّةِ زَيْنٌ لِلْبِلَادِ وَالْعِبَادِ يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَبِضِدِّهِ الْجَهْلُ وَالْفَسَادُ، فَإِنَّهُ شَيْنٌ وَدَمَارٌ لِلدِّيَارِ وَالْأَعْمَارِ.

(قَوْلُهُ: وَآثَارٍ) جَمْعُ أَثَرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْأَثَرُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ يَعُمُّ الْمَرْفُوعَ وَالْمَوْقُوفَ كَالْخَبَرِ، وَالْمُخْتَارُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَرْوِيِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ الصَّحَابِيِّ أَوْ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَصَّهُ فُقَهَاءُ خُرَاسَانَ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَالْخَبَرِ بِالْمَرْفُوعِ.

وَلَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمَامًا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي طَبَقَاتِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَنْ زَعَمَ قِلَّةَ اعْتِنَائِهِ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ إمَّا لِتَسَاهُلِهِ أَوْ حَسَدِهِ إذْ كَيْفَ يَتَأَتَّى مِمَّنْ هُوَ كَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ مِثْلِ مَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ مَعَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ اسْتَنْبَطَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ الْمَعْرُوفِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَلِأَجْلِ اشْتِغَالِهِ بِهَذَا الْأَهَمِّ لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ فِي الْخَارِجِ، كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا اشْتَغَلَا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُمَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ مِثْلُ مَا ظَهَرَ عَنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُمَا مِثْلُ مَا ظَهَرَ عَمَّنْ تَفَرَّغَ لِلرِّوَايَةِ كَأَبِي زُرْعَةَ وَابْنِ مَعِينٍ لِاشْتِغَالِهِمَا بِذَلِكَ الِاسْتِنْبَاطِ، عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ بِدُونِ دِرَايَةٍ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ مَدْحٍ بَلْ عَقَدَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَابًا فِي ذَمِّهِ ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ ذَمُّ الْإِكْثَارِ مِنْ الْحَدِيثِ بِدُونِ تَفَقُّهٍ وَلَا تَدَبُّرٍ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَقْلِلْ الرِّوَايَةَ تَتَفَقَّهْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لِيَكُنْ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْأَثَرَ وَخُذْ مِنْ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَك الْحَدِيثَ.

وَمِنْ أَعْذَارِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا بِمَا يَحْفَظُهُ يَوْمَ سَمِعَهُ إلَى يَوْمِ يُحَدِّثُ بِهِ، فَهُوَ لَا يَرَى الرِّوَايَةَ إلَّا لِمَنْ حَفِظَ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ إسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ النُّعْمَانُ، مَا كَانَ أَحْفَظَهُ لِكُلِّ حَدِيثٍ فِيهِ فِقْهٌ وَأَشَدُّ فَحْصِهِ عَنْهُ، وَأَعْلَمُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ، وَتَمَامُهُ فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ لِابْنِ حَجَرٍ.

(قَوْلُهُ: وَفِقْهٍ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ التَّوْحِيدَ، فَإِنَّ الْفِقْهَ كَمَا عَرَّفَهُ الْإِمَامُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا ط.

(قَوْلُهُ: كَآيَاتِ الزَّبُورِ) التَّشْبِيهُ فِي الْإِيضَاحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>