إنَّمَا يُكَفِّرُ إذَا تَصَدَّقَ بِالْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ، أَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْ إنْسَانٍ مِائَةً وَمِنْ آخَرَ مِائَةً وَخَلَطَهُمَا ثُمَّ تَصَدَّقَ لَا يُكَفِّرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِعَيْنِهِ بِالْقَطْعِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بِالْخَلْطِ
ــ
[رد المحتار]
زَكَاةَ الْمَالِ الْحَلَالِ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ ذَكَرَ فِي الْوَهْبَانِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَنَقَلَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقُنْيَةِ.
وَقَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: وَلَوْ نَوَى فِي الْمَالِ الْخَبِيثِ الَّذِي وَجَبَتْ صَدَقَتُهُ أَنْ يَقَعَ عَنْ الزَّكَاةِ وَقَعَ عَنْهَا اهـ أَيْ نَوَى فِي الَّذِي وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ لِجَهْلِ أَرْبَابِهِ، وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِقَوْلِ الظَّهِيرِيَّةِ: رَجُلٌ دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ شَيْئًا يَرْجُو بِهِ الثَّوَابَ يَكْفُرُ، وَلَوْ عَلِمَ الْفَقِيرُ بِذَلِكَ فَدَعَا لَهُ وَأَمَّنَ الْمُعْطِيَ كَفَرَا جَمِيعًا.
وَنَظَمَهُ فِي الْوَهْبَانِيَّةِ وَفِي شَرْحِهَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُؤَمِّنُ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ الْمُعْطِي وَالْقَابِضِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُونَ وَمِنْ الْجُهَّالِ فِيهِ وَاقِعُونَ. اهـ.
قُلْت: الدَّفْعُ إلَى الْفَقِيرِ غَيْرُ قَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ لَوْ بَنَى مِنْ الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ مَسْجِدًا وَنَحْوَهُ مِمَّا يَرْجُو بِهِ التَّقَرُّبَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ رَجَاءُ الثَّوَابِ فِيمَا فِيهِ الْعِقَابُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِقَادِ حِلِّهِ (قَوْلُهُ: إذَا تَصَدَّقَ بِالْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ) أَيْ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ النَّاشِئِ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ كَمَا مَرَّ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ لَا يَكْفُرُ) اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِهِ لَا يَحِلُّ وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ كَمَا عَلِمْته وَفِي حَاشِيَةِ الْحَمَوِيِّ عَنْ الذَّخِيرَةِ: سُئِلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَمَّنْ اكْتَسَبَ مَالَهُ مِنْ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ وَجَمَعَ الْمَالَ مِنْ أَخْذِ الْغَرَامَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ؟ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَسَعَهُ حُكْمًا أَنْ يَأْكُلَهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُطْعِمِ غَصْبًا أَوْ رِشْوَةً اهـ أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنُ الْغَصْبِ أَوْ الرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَهُوَ نَفْسُ الْحَرَامِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَذَكَرَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ هُنَا أَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الْعَلَّامَةُ بِخُوَارِزْمَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَيَأْخُذُ جَوَائِزَهُمْ، فَقِيلَ لَهُ فِيهِ، فَقَالَ: تَقْدِيمُ الطَّعَامِ يَكُونُ إبَاحَةً وَالْمُبَاحُ لَهُ يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَيَكُونُ آكِلًا طَعَامَ الظَّالِمِ وَالْجَائِزَةُ تَمْلِيكٌ فَيَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. اهـ.
قُلْت: وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَتَعَدَّى إلَى ذِمَّتَيْنِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ خِلَافِهِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِعَيْنِهِ إلَخْ) يُوهِمُ أَنَّهُ قَبْلَ الْخَلْطِ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ مَالَ الْغَيْرِ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ بِخِلَافِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ قَطْعِيَّةً، إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِهِ.
فَفِي الْبَزَّازِيَّةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الزَّكَاةِ: مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَالِ ظُلْمًا وَيَخْلِطُهُ بِمَالِهِ وَبِمَالِ مَظْلُومٍ آخَرَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ عِنْدَنَا حَرَامًا مَحْضًا، نَعَمْ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. اهـ. مَطْلَبٌ اسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ الْقَطْعِيَّةِ كُفْرٌ لَكِنْ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ: اسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ كُفْرٌ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَعَلَى هَذَا تَفَرَّعَ مَا ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى مِنْ أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ الْحَرَامَ حَلَالًا، فَإِنْ كَانَ حُرْمَتُهُ لِعَيْنِهِ وَقَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَكْفُرُ وَإِلَّا فَلَا بِأَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ أَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ. وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ وَقَالَ مَنْ اسْتَحَلَّ حَرَامًا قَدْ عَلِمَ فِي دِينِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَحْرِيمَهُ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ فَكَافِرٌ. اهـ. قَالَ شَارِحُهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْغَرْسِ وَهُوَ التَّحْقِيقُ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَرْطَ الْكُفْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شَيْئَانِ: قَطْعِيَّةُ الدَّلِيلِ، وَكَوْنُهُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ. وَعَلَى الثَّانِي يُشْتَرَطُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute