الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبُولَ فِي هَذَا عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ، لَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَصَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ بِعِوَضٍ، إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ رَأْسَ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ رَأْسَ الشَّهْرِ كَذَا هَهُنَا، فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى دَيْنٌ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَقْتُ الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَقْتُ الْعِتْقِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ، إذْ الْقَبُولُ بَعْدَ الْإِيجَابِ يَكُونُ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَبُولُ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ، أَوْ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَوَالْقَاضِي، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِير، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْمَالُ سَاقِطٌ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَبُولُ الْمَالِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنٌ لِمَوْلَاهُ فَسَقَطَ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ السَّاعَةَ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ.
فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إذَا قَالَ: إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ حَتَّى تُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ، وَكُلُّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِيقَاعٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ أَوْ بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ أَوْ الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا ثُمَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ يَمْلِكُ الْوَارِثُ الْإِعْتَاقَ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ يُعْتَقُ كَمَا لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لَا التَّعْلِيقَ حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِالدُّخُولِ فَدَخَلَ لَا يُعْتَقُ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ وَالْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ، وَالْوَكِيلُ بِالْإِعْتَاقِ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَزِمَتْهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَالْوَلَاءُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ مَوْتِي.
فَالْقَبُولُ فِي هَذَا فِي الْحَيَاةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْحَالَتَيْنِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاَللَّهُ ﷿ الْمُوَفِّقُ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَمَا فِي مِلْكِهِ صَارَ مُدَبَّرًا، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ بِغَيْرِ تَدْبِيرٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَسْتَفِيدُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْحَالِ مُرَادٌ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ، فَلَا يَكُونُ مَا يَسْتَفِيدُهُ مُرَادًا؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَعَ الِاسْتِقْبَالِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْتَفَادُ فِي هَذَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ، كَذَا فِي التَّدْبِيرِ وَلَهُمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، أَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، فَالْيَمِينُ إنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي مِلْكِ الْمُوصِي وَبِمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَمْلُوكُ لِلْحَالِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَقَوْلُهُ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُلْنَا: قَدْ يَشْتَمِلُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْنِ التَّدْبِير]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ، فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ التَّدْبِيرِ أَعْنِي الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، فَلَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ رُكْنِهِ مُطْلَقًا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute