أَنْتَ حُرٌّ، وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ هَذَا كَلَامٌ وَاحِدٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ لِلَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ قَوْلَهُ: حُرٌّ وَحُرٌّ، لَغْوٌ؛ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَكَانَ فَاصِلًا بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِلَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَيْسَ بِلَغْوٍ فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسَةٌ مِنْ الرَّقِيقِ، فَقَالَ: عَشْرَةٌ مِنْ مَمَالِيكِي إلَّا وَاحِدًا أَحْرَارٌ أَنَّهُ يُعْتِقُ الْخَمْسَةَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: عَشْرَةٌ مِنْ مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا، فَقَدْ اسْتَثْنَى الْوَاحِدَ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: تِسْعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ، وَلَهُ خَمْسَةٌ، وَلَوْ قَالَ، ذَلِكَ عَتَقُوا جَمِيعًا كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: مَمَالِيكِي الْعَشَرَةُ أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا، عَتَقَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا رَجُلٌ ذَكَرَ مَمَالِيكَهُ وَغَلَطَ فِي عَدَدِهِمْ بِقَوْلِهِ: الْعَشَرَةُ فَيَلْغُو هَذَا الْقَوْلُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ: مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ، وَلَهُ خَمْسَةُ مَمَالِيكَ، يُعْتِقُ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْإِعْتَاقِ]
: (فَصْلٌ) :
وَأَمَّا صِفَةُ الْإِعْتَاقِ فَهِيَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ هَلْ يَتَجَزَّأُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَجَزَّأُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَتَجَزَّأُ كَيْفَ مَا كَانَ الْمُعْتِقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُعْسِرًا يَتَجَزَّأُ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا لَا يَتَجَزَّأُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ﵃، قَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: إنَّهُ يُعْتِقُ نِصْفَهُ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا، يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتِقُ كُلَّهُ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إلَّا الضَّمَانُ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵄: عَتَقَ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مَا رَقَّ هُمَا احْتَجَّا بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَالْأَحْكَامِ، أَمَّا النَّصُّ: فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ، عَتَقَ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى عَدَمِ التَّجَزِّي، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ دَافِعَةٍ يَدَ الِاسْتِيلَاءِ، وَالرِّقُّ اسْمٌ لِضَعْفٍ حُكْمِيٍّ يَصِيرُ بِهِ الْآدَمِيُّ مَحِلًّا لِلتَّمَلُّكِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمِيُّ بِالْحَقِيقِيِّ، وَثُبُوتُ الْقُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالضَّعْفِ الْحَقِيقِيِّ فِي النِّصْفِ شَائِعًا مُسْتَحِيلٌ فَكَذَا الْحُكْمِيُّ؛ وَلِأَنَّ لِلْعِتْقِ آثَارًا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ وَنَحْوِهَا، وَثُبُوتُ هَذِهِ الْآثَارِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّي؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَجَزَّأْ فِي حَالِ الثُّبُوتِ حَتَّى لَا يَضْرِبَ الْإِمَامُ الرِّقَّ فِي أَنْصَافِ السَّبَايَا وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْصَافِ، كَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَإِنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ قَدْ تَعَدَّى إلَى النِّصْفِ الْبَاقِي فِي الْأَحْكَامِ، حَتَّى امْتَنَعَ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِ فِيهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى عِتْقِ الْكُلِّ بِالضَّمَانِ أَوْ بِالسِّعَايَةِ، حَتَّى يُجْبِرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ آثَارِ عَدَمِ التَّجَزِّي، وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَادَّعَاهُ، تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ، فَالْحَقُّ إذَا لَمْ يَتَجَزَّأْ فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ عَتَقَ نِصْفَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، عَتَقَ كُلَّهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّئًا لَمْ يَكُنْ الْمَحِلُّ فِي حَقِّ الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا، وَإِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إلَى بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّهِ يَكُونُ إضَافَةً إلَى الْكُلِّ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ وَالْحُكْمُ، أَمَّا النَّصُّ: فَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ، كُلِّفَ عِتْقَ بَقِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُهُ فِيهِ، جَازَ مَا صَنَعَ» .
وَرُوِيَ: كُلِّفَ عِتْقَ مَا بَقِيَ، وَرُوِيَ: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ نَصٌّ عَلَى التَّجَزِّي؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ عِتْقِ الْبَاقِي لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي كُلِّهِ، وَقَوْلُهُ ﷺ: جَازَ مَا صَنَعَ، إشَارَةٌ إلَى عِتْقِ الْبَعْضِ إذْ هُوَ الَّذِي صَنَعَهُ لَا غَيْرُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا عَتَقَ مَا عَتَقَ» وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ عِتْقِ الْبَاقِي بِالضَّمَانِ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَعَلَى عِتْقِ الْبَعْضِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَيَدُلُّ عَلَى التَّجَزِّي فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ