مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ﵀ عَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنْ النَّسَبِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ ﵀ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ الدِّيَاتُ عَلَى الْقَبَائِلِ فَلَمَّا وَضَعَ سَيِّدُنَا عُمَرُ ﵁ الدَّوَاوِينَ جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الدَّوَاوِينِ، فَإِنْ قِيلَ: «قَضَى ﵊ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ النَّسَبِ إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ» فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ ﵁ عَلَى مُخَالِفَتِهِ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَالْجَوَابُ لَوْ كَانَ سَيِّدُنَا عُمَرُ ﵁ فَعَلَ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَكَانَ يَجِبُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَيْفَ وَكَانَ فِعْلُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃، وَلَا يُظَنُّ مِنْ عُمُومِ الصَّحَابَةِ ﵃ مُخَالَفَةُ فِعْلِهِ؟ ﵊ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ كَانَ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا صَارَتْ النُّصْرَةُ فِي زَمَانِهِمْ الدِّيوَانَ نَقَلُوا الْعَقْلَ إلَى الدِّيوَانِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةَ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَقَبْلَ وَضْعِ الدِّيوَانِ كَانَ التَّنَاصُرُ بِالْقَبِيلَةِ، وَبَعْدَ الْوَضْعِ صَارَ التَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ، فَصَارَ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ دِيوَانِهِ.
وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ، وَالصَّبِيَّانِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ صِلَةٌ، وَتَبَرُّعٌ بِالْإِعَانَةِ، وَالصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالْمَمَالِيكُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ.
وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُعْتَقًا أَوْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ، وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ ﵊ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ثُمَّ عَاقِلَةُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى قَبِيلَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، فَكَذَا عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ، وَلِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِمَوْلَاهُ وَقَبِيلَتِهِ فَكَانُوا عَاقِلَتَهُ، هَذَا إذَا كَانَ لِلْقَاتِلِ عَاقِلَةٌ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَاللَّقِيطِ، وَالْحَرْبِيِّ أَوْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ الْمَالِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْأَخْذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ يُرَدُّ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَكَانِ التَّنَاصُرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَانَ اسْتِنْصَارُهُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ عَاقِلَتُهُ (وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ، فَلَا يَجُوزُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ إذَا كَانَ فِي الْعَاقِلَةِ كَثْرَةٌ، فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حَتَّى أَصَابَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ مِنْ النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ أَوْ لَا، وَلَا يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ جِنَايَةً وُجِدَتْ مِنْهُ، وَضَمَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ.
[كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ]
(وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ ﵁ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
وَتُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِ عَطَايَا إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَطِيَّةً، فَإِنْ تَعَجَّلَ الْعَطَايَا الثَّلَاثَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ الْكُلُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ قَبِيلَتِهِ مِنْ النَّسَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الدِّيَةَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْقَتْلِ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا مُؤَجَّلًا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَجِبُ مُؤَجَّلًا فِي مَالِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْعَمْدِ الَّذِي دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ، وَهُوَ الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا، قَالَ أَصْحَابُنَا ﵏: إنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إلَّا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَدِيَةُ الْعَمْدِ فِي مَالِ الْأَبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: دِيَةُ الدَّمِ كَدِيَةِ الْعَمْدِ تَجِبُ حَالًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ حَالًا فَتَجِبُ الدِّيَةَ حَالًا، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ هُوَ الْأَصْلُ، إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃ أَوْ يَثْبُتُ مَعْلُولًا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ حَتَّى تَحْمِلَ عَنْهُ الْعَاقِلَة.
وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُهُ