للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِدُونِهَا، وَيُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَأَمَّا التَّحْرِيمَةُ فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هِيَ شَرْطٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ فِي بَابِ الْحَجِّ أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ رُكْنٌ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ بِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ بِأَنْ يُحْرِمَ لِلْفَرْضِ وَيَفْرُغَ مِنْهُ وَيَشْرَعَ فِي النَّفْلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمَةٍ جَدِيدَةٍ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى النَّفَلُ بِتَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ كَمَا يَتَأَدَّى بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِلْفَرْضِ وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَتْ رُكْنًا وَقَدْ انْقَضَى الْفَرْضُ بِأَرْكَانِهِ فَتَنْقَضِي التَّحْرِيمَةُ أَيْضًا.

(وَجْهُ) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا وُجِدَتْ عَلَامَةُ الْأَرْكَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ بَلْ تَنْقَضِي، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: ١٥] عَطَفَ الصَّلَاةَ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمَةُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ أَنْ تُوجَدَ الصَّلَاةُ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَوْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الذِّكْر لِاسْتِحَالَةِ انْعِدَامِ الشَّيْءِ فِي حَالِ وُجُودِ رُكْنِهِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالثَّانِي - أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَا يَتَحَقَّقُ الْمُغَايَرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ غَيْرُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنَهُ، وَكَذَا الْمَوْجُودُ فِيهَا حَدَّ الشَّرْطِ لَا حَدُّ الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الصَّلَاةَ بِهَا، وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا مَعَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ فَكَانَتْ شَرْطًا، وَكَذَا عَلَامَةُ الشُّرُوطِ فِيهَا مَوْجُودَةٌ، فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ الِانْزِجَارِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّ الْعَلَامَةَ إذَا خَالَفَتْ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْحَدُّ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَاذِبَةٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لَهَا بَلْ، لِلْقِيَامِ الْمُتَّصِلِ بِهَا، وَالْقِيَامُ رُكْنٌ، حَتَّى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِالرُّكْنِ جَوَّزْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَقْتِ.

[فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَرْكَانِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الشَّرَائِطِ أَنَّهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جَمِيعًا، وَهُوَ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ، وَهُوَ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ.

(أَمَّا) شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ: (فَمِنْهَا) الطَّهَارَةُ بِنَوْعَيْهَا مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ، وَالطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَمَكَانِ الصَّلَاةِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ.

(أَمَّا) طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَطَهَارَةُ الْبَدَنِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤] ، وَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى.

(وَأَمَّا) الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] إلَى قَوْلِهِ: ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [الأنفال: ١١] .

وَقَوْلِ النَّبِيِّ : «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» ، وَقَوْلِهِ : «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» وَقَوْلِهِ : «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ» .

وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦] ، وَقَوْلِهِ : «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» ، وَالْإِنْقَاءُ هُوَ التَّطْهِيرُ، فَدَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَالْحُكْمِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْقُولُ كَذَا يَقْتَضِي مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ -، وَخِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِبَدَنٍ طَاهِرٍ وَثَوْبٍ طَاهِرٍ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ الْقِيَامِ بِبَدَنٍ نَجِسٍ وَثَوْبٍ نَجِسٍ وَعَلَى مَكَان نَجِسٍ، كَمَا فِي خِدْمَةِ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجَاسَةً مَرْئِيَّةً فَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تُوجِبُ اسْتِقْذَارَ مَا حَلَّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَافِحَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ امْتَنَعَ وَقَالَ: إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَانَ قِيَامُهُ مُخِلًّا بِالتَّعْظِيمِ؟ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ نَجَاسَةٌ رَأْسًا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ بَادِيَةٌ عَادَةً فَيَتَّصِلُ بِهَا الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ، فَيَجِبُ غَسْلُهَا تَطْهِيرًا لَهَا مِنْ الْوَسَخِ، وَالدَّرَنِ فَتَتَحَقَّقُ الزِّينَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُلُوكِ لِلْخِدْمَةِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ.

وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَأَنْظَفِهَا الَّتِي أَعَدَّهَا لِزِيَارَةِ الْعُظَمَاءِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>