للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُ أَدَّى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ.

فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ: " وَكَّلْتُكَ بِكَذَا " أَوْ " افْعَلْ كَذَا " أَوْ " أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا " وَنَحْوُهُ.

وَالْقَبُولُ مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ: " قَبِلْتُ " وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَبَضَهُ لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.

ثُمَّ رُكْنُ التَّوْكِيلِ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا؛ وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: " إنْ قَدِمَ زَيْدٌ؛ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ " وَقَدْ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ: " وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ غَدًا "، وَيَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّمْلِيكَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ، وَالتَّقْيِيدَاتُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالرَّجْعَةُ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

[فَصْلٌ فِي شَرَائِط الْوَكَالَة]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا الشَّرَائِطُ: فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِهِ، فَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، كَيْفَ يَحْتَمِلُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ؟ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا؟ وَكَذَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ، وَيَصِحُّ بِالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ: كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ.

وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ: كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ، وَعَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ بِالتِّجَارَةِ أَيْضًا، كَمَا إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِهِ فَائِدَةً، لِوُجُودِ الْمُجِيزِ لِلْحَالِ، وَهُوَ الْوَلِيُّ.

وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ، وَيَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَيَمْلِكَانِ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ وَأَمَّا التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ: فَمَوْقُوفٌ: إنْ أَسْلَمَ يَنْفُذُ، وَإِنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، يَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ نَافِذٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِمَا قُلْنَا.

وَأَمَّا الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: إنَّ أَوْلِيَائِي غُيَّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُنِي ثُمَّ قَالَ لِعَمْرِو ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنِّي فَزَوَّجَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ صَبِيًّا» وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ انْعَدَمَ هُنَاكَ وَوُجِدَ هُنَا؛ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَ بَالِغًا، وَإِذَا كَانَ صَبِيًّا تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَكَذَا رِدَّةُ الْوَكِيلِ: لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ؛ فَتَجُوزُ وَكَالَةُ الْمُرْتَدِّ، بِأَنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ؛ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّهُ نَافِذُ التَّصَرُّفَاتِ.

وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ.

(وَأَمَّا) عِلْمُ الْوَكِيلِ: فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطٌ، إمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ، وَإِمَّا عِلْمُ مَنْ يُعَامِلُهُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ قَبْلَ عِلْمِهِ، وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِالتَّوْكِيلِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى

<<  <  ج: ص:  >  >>