للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْله تَعَالَى ﴿لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الحشر: ٢٠] أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ لِثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ حُمِلَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى مَعَ ذَلِكَ اللِّبَاسَ أَوْ امْرَأَتَهُ فَالتَّحْرِيمُ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ.

وَأَيَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَ، وَحْدَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِتَنَاوُلِ كُلِّ الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَوَى شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَإِذَا نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ بِأَنْ نَوَى الطَّعَامَ خَاصَّةً أَوْ الشَّرَابَ خَاصَّةً أَوْ اللِّبَاسَ خَاصَّةً أَوْ امْرَأَتَهُ خَاصَّةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْقَضَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ عُمُومِهِ، وَمِثْلُهُ يُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِذَا قَالَ أَرَدْت وَاحِدًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ تَرَكَ ظَاهِرَ لَفْظٍ هُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعُدُولُ فَيُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى امْرَأَتَهُ كَانَ عَلَيْهَا، وَعَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ دَخَلَا تَحْتَ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَلَمْ يَنْفِهِمَا بِنِيَّتِهِ فَبَقِيَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى امْرَأَتَهُ خَاصَّةً، وَنَفَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِنِيَّتِهِ فَلَمْ يَدْخُلَا وَهَهُنَا لَمْ يَنْفِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ نِيَّتَهُ وَقَدْ دَخَلَا تَحْتَ اللَّفْظِ فَبَقِيَا كَذَلِكَ مَا لَمْ يُنْفَيَا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ نَوَى فِي امْرَأَتِهِ الطَّلَاقَ لَزِمَهُ الطَّعَامُ فِيهَا فَإِنْ أَكْلَ أَوْ شَرِبَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِذَا أَرَادَ بِهِ فِي الزَّوْجَةِ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْأَمْرَيْنِ، وَأَغْلَظُهُمَا لَا يَبْقَى الْآخَرُ مُرَادًا.

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ، يَعْنِي فِي إحْدَاهُمَا الطَّلَاقَ، وَفِي الْأُخْرَى الْإِيلَاءَ فَهُمَا طَالِقَانِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِذَا أَرَادَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِهِمَا، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا.

وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ - يَنْوِي الطَّلَاقَ - وَهَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ - يَنْوِي الْإِيلَاءَ - كَانَ كَمَا نَوَى؛؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِهِمَا خِلَافُ مَا يُرَادُ بِالْآخَرِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي فِي إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي الْأُخْرَى وَاحِدَةً أَنَّهُمَا جَمِيعًا طَالِقَانِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ خِلَافُ حُكْمِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا نَوَاهُمَا يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِهِمَا، وَأَشَدِّهِمَا.

وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ فِي أَهْلِهِ قَالَ: وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ أَكْلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذِهِ - يَنْوِي الطَّلَاقَ -؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَنَاوَلَتْ الطَّلَاقَ، فَلَا تَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ الطَّعَامِ.

وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالدَّمِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ كَالْخَمْرِ أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ نَوَى كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لِيُجْعَلَ يَمِينًا فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَكَانَ يَمِينًا، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فَهُوَ إيلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ.

وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ أُمِّي - يُرِيدُ التَّحْرِيمَ - قَالَ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا مِثْلَ أُمِّهِ لِيَكُونَ تَحْرِيمًا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا أُمَّهُ فَيَكُونُ كَذِبًا.

قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا لَثَبَتَ إذَا قَالَ أَنْتِ حَوَّاءُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ.

وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ مَعِي حَرَامٌ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ يُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَوْضِعُ بَيَانِهِ كِتَابُ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يُسَاوِي سَائِرَ الْأَيْمَانِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ الْحِنْثِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ حُكْمُ الْبِرِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِسَائِرِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ فِيهَا وَلِلْإِيلَاءِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ حُكْمٌ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ شَرْعًا بِشَرْطِ الْبِرِّ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، فَنَذْكُرُ الشَّرَائِطَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فَنَقُولُ: لِرُكْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>