الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ مِنْ الْمَالِكِ فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ فِي الْحَالِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ مَا يَبْطُلُ مِنْهَا وَمَا يُتَوَقَّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ:
حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ غَيْرِ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَنَوْعٌ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِإِقَالَةٍ وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الْخَالَيْ عَنْ الْخِيَارِ.
وَالْكَلَامُ فِي الْإِقَالَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِقَالَةِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِقَالَةِ (أَمَّا) رُكْنُهَا فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الرُّكْنُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالْآخَرُ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ هَوِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ؟ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَقِلْنِي، فَيَقُولُ: أَقَلْتُكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَالَ: أَقَلْتُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَنْعَقِدُ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ ﵀: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي كَمَا فِي الْبَيْعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِقَالَةِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَرُكْنِ الْبَيْعِ، ثُمَّ رُكْنُ الْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي، فَكَذَا رُكْنُ الْإِقَالَةِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقَالَةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا فَلَمْ تَقَعْ إيجَابًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ بِعَلَيَّ حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ وَلِهَذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْإِيجَابِ فِي النِّكَاحِ كَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وَعَمَلِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاهِيَّتِهَا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: الْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّهَا فَسْخٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعٌ بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْعًا فَتُجْعَلَ فَسْخًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّهَا فَسْخٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلَ بَيْعًا لِلضَّرُورَةِ وَقَالَ زُفَرُ: إنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّفْعِ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي أَيْ ارْفَعْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَعَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا فِي حَدٍّ» ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا فَيَخْتَلِفَانِ حُكْمًا، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْفَسْخُ، كَمَا قَالَ زُفَرُ: إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا ضَرُورَةً (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ لَلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ، وَلِهَذَا أُعْطِيَ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَكَذَا اُعْتُبِرَ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى الْفَسْخِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَزُفَرَ أَنَّهُ رَفْعٌ لُغَةً وَشَرْعًا، وَرَفْعُ الشَّيْءِ فَسْخُهُ.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ فَمَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ بِبَدَلٍ وَهَذَا مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ لِلتَّنَافِي فَأَظْهَرْنَاهُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فَجُعِلَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا بَيْعًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ؟ فَمِنْ شَخْصَيْنِ أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَلَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.
، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا تَقَايَلَا وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀: وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهَا، وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَنْقُولٍ