شَيْءٍ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ أَوْ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الطُّهْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِجْمَاعَ وَمِثْلَ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ مُنْعَدِمَانِ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ لَنَا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَقْصَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَهَلْ يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قِرَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ؟ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؟ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُبَاحُ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.
[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا: فَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِوُجُودِ الْإِقَامَةِ، وَالْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صَرِيحُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِقَامَةِ.
(أَمَّا) نِيَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لِانْتِظَارِ الْقَافِلَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَبُوكَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ.
وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَفِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ كَانَ مُقِيمًا وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ (احْتَجَّ) لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَتَى وُجِدَتْ حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ الصَّلَاةُ قَلَّتْ الْإِقَامَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّهَا ضِدُّ السَّفَرِ، وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمَا يُضَادُّهُ إلَّا «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَصَرَ الصَّلَاةَ» فَتَرَكْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالنَّصِّ فَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَبْطُلَ السَّفَرُ بِقَلِيلِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالسَّفَرُ انْتِقَالٌ، وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ بِمَا يُضَادُّهُ فَيَنْعَدِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً، إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْإِقَامَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَثِيرِ أَنْ يَكُونُ جَمْعًا، وَالثَّلَاثَةُ وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا لَكِنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَكَانَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْكَثْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً صَارَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِزَوَالِ مَعْنَى الْقِلَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ﵃ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ﵁ أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَالْقِيَاسُ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ (وَأَمَّا) مُدَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَحُجَّتُهُمَا مَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ تُوجِبُ حُكْمَ الْإِقَامَةِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ ﵃ أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَأَقْصِرْ وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالَاهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ ﵃ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ دَخَلُوا مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَمَكَثُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْيَوْمَ الْخَامِسَ وَالْيَوْمَ السَّادِسَ وَالْيَوْمَ السَّابِعَ فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ خَرَجُوا إلَى مِنًى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» دَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَرْبَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَرَخَّصَ بِالْمُقَامِ ثَلَاثًا لِهَذَا لَا لِتَقْدِيرِ