للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إحْدَى الْيَمِينَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَتَحَالُفِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيهِ بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ فَكَانَ تَفْرِيقُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ وَالْقِيَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَضُرُّهُ قَائِمًا لَاعَنَ أَوْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ أَوْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا، وَالْقِيَامُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِيهِمَا إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ؛ «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَدَبَ عَاصِمًا وَامْرَأَتَهُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ قُمْ فَاشْهَدْ بِاَللَّهِ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: قُومِي فَاشْهَدِي بِاَللَّهِ» ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مِنْ جَانِبِهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَمِنْ جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا وَالسُّنَّةُ فِي الْحُدُودِ إقَامَتُهَا عَلَى الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ وَالْقِيَامُ أَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

[فَصْلٌ فِي صِفَةُ اللِّعَانِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا صِفَةُ اللِّعَانِ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ إنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الزَّوْجِ بِقَذْفِهَا هُوَ الْحَدُّ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ عَنْهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاللِّعَانِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ هُوَ حَدُّ الزِّنَا وَلَهَا أَنْ تُخَلِّصَ نَفْسَهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ حَتَّى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُخَاصِمَهُ إلَى الْحَاكِمِ وَتُطَالِبَهُ بِاللِّعَانِ عِنْدَنَا، وَإِذَا طَالَبَتْهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ امْتَنَعَ يُحْبَسُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَكَذَا إذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى اللِّعَانِ وَلَوْ امْتَنَعَتْ تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ بِالزِّنَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تُجْبَرُ وَلَا تُحْبَسُ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أَوْجَبَ ﷾ الْجَلْدَ عَلَى الْقَاذِفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْقَاذِفَ إذَا كَانَ زَوْجًا لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يَدْفَعُهُ بِاللِّعَانِ فَكَانَ اللِّعَانُ مُخَلِّصًا لَهُ عَنْ الْحَدِّ.

وقَوْله تَعَالَى ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٨] جَعَلَ ﷾ لِعَانَهَا دَفْعًا لِحَدِّ الزِّنَا عَنْهَا إذْ الدَّرْءُ هُوَ الدَّفْعُ لُغَةً فَدَلَّ أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ ثُمَّ تَدْفَعُهُ بِلِعَانِهَا وَلِأَنَّ بِلِعَانِهِ يَظْهَرُ صِدْقُهُ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ إلَّا أَنَّ لَهَا أَنْ تُخَلِّصَ نَفْسَهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَاعَنَتْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الزَّوْجِ فِي الْقَذْفِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٦] أَيْ فَلْيَشْهَدْ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ جَعَلَ ﷾ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ اللِّعَانَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِظُهُورِ كِذْبِهِ فِي الْقَذْفِ وَبِالِامْتِنَاعِ مِنْ اللِّعَانِ لَا يَظْهَرُ كِذْبُهُ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ أَوْ الْيَمِينِ يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيهِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْهُ صَوْنًا لِنَفْسِهِ عَنْ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ وَلِأَنَّ الِاحْتِمَالَ مِنْ الْيَمِينِ بَدَلٌ وَإِبَاحَةٌ وَالْإِبَاحَةُ لَا تَجْرِي فِي الْحُدُودِ فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ.

وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَقَدْ قِيلَ أَنَّ مُوجَبَ الْقَذْفِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ هُوَ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ جَمِيعًا ثُمَّ نُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ وَجُعِلَ مُوجَبُ قَذْفِهِنَّ اللِّعَانَ بِآيَةِ اللِّعَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ أَمْسَكَ أَمْسَكَ عَلَى غَيْظٍ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْتَحْ فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ دَلَّ قَوْلُهُ: " وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ جَلَدْتُمُوهُ " عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْحَدَّ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ ثُمَّ نُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ بِآيَةِ اللِّعَانِ فَيَنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ الْعَامَّ الْمُتَقَدِّمَ بِقَدْرِهِ هَكَذَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ قَدْرِ الْخَاصِّ سَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا وَسَوَاءٌ عَلِمَ التَّارِيخَ وَبَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ أَوْ لَا يَصْلُحُ، أَوْ جَهِلَ التَّارِيخَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ تَكُنْ الزَّوْجَاتُ دَاخِلَاتٍ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ عَلَى قَوْلِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ احْتِجَاجُهُ بِهَا؟ .

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ [النور: ٨] فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْعَذَابِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ الْعَذَابِ لَا وُجُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَفْعًا لَا دَفْعًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ الْحَبْسُ إذْ الْحَبْسُ يُسَمَّى عَذَابًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [النمل: ٢١] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ لَأَحْبِسَنَّهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْمَنْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>