عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ ﵁ إلَى مَكَّةَ، وَوَلَّاهُ أَمْرَهَا، رَزَقَهُ أَرْبَعَمِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ عَامٍ» .
وَرُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ ﵃ أَجَرُوا لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ﵁ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَثُلُثًا أَوْ ثُلُثَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ ﵁ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵁ كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ، وَرَزَقَ سَيِّدُنَا عُمَرُ ﵁ شُرَيْحًا، وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا فَرَضَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ.
أَمَّا الْحِلُّ؛ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ عَلَيْهِمْ لَا مِنْ طَرِيقِ الْأَجْرِ وَأَمَّا الْأَفْضَلِيَّةُ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ قَاضٍ مُحْتَاجٌ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ سُنَّةً وَرَسْمًا، فَتَمْتَنِعُ السَّلَاطِينُ عَنْ إبْطَالِ رِزْقِ الْقُضَاةِ إلَيْهِمْ - خُصُوصًا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا - فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَخْذِ شُحًّا بِحَقِّ الْغَيْرِ، فَكَانَ الْأَفْضَلُ هُوَ الْأَخْذُ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالتَّفْوِيضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ تَتَوَقَّفُ قَضَايَا خَلِيفَتِهِ عَلَى إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الْخَاصِّ، إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، كَالْوَكِيلِ الْعَامِّ وَفِي آدَابِ الْقَضَاءِ وَمَا نَدَبَ الْقَاضِي إلَى فِعْلِهِ كَثْرَةً لَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ هُنَاكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا، وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، أَوْ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّقْضُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا قَطْعًا، وَإِنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا قَطْعًا.
وَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ نَفْسَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ؛ لَمْ يَرُدَّهُ الثَّانِي، بَلْ يُنَفِّذُهُ؛ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته؛ لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاؤُهُ مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته، فَلَوْ نَقَضَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ.
وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلْ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ يَرْفَعُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الْأَوَّلُ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ، وَمَا أَدَّى إلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ.
فَإِنْ كَانَ رَدَّهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَهُ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ، وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ، وَقَضَاءَ الثَّانِي بِالرَّدِّ بَاطِلٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنْ كَانَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى الْمِصْرِ - الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْخَوَارِجِ - فَرُفِعَتْ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَا قَاضِيهِمْ، لَمْ يَنْفُذْ شَيْئًا مِنْهَا، بَلْ يَنْقُضُهَا كُلَّهَا - وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ - كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ؛ لِيَنْزَجِرُوا عَنْ الْبَغْيِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمْ لَا كَمَا لَوْ قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ أَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ؟ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يُنْقَضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ هُنَا لَمْ يَجُزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ.
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْكُلِّ، فَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَالْقَاضِي بِالْقَضَاءِ يَقْطَعُ أَحَدَ الِاخْتِلَافَيْنِ، وَيَجْعَلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ بِالْقَضَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحِلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ