للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَطَلَ الْيَمِينُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي عَامِلٍ اسْتَحْلَفَ رَجُلًا أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ مِنْ فَاسِقٍ أَوْ دَاعِرٍ أَوْ سَارِقٍ فِي مَحَلَّتِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى عُزِلَ الْعَامِلُ عَنْ عَمَلِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ، وَبَطَلَتْ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَقَيَّدَتْ بِحَالِ عَمَلِهِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْعَامِلِ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ مَادَامَ وَالِيًا فَإِذَا زَالَتْ وِلَايَتُهُ ارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ فَإِنْ عَادَ الْعَامِلُ عَامِلًا بَعْدَ عَزْلِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ بَطَلَتْ فَلَا تَعُودُ سَوَاءٌ عَادَ عَامِلًا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ عَلِمَ بِبَعْضِ مَا اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ فَأَخَّرَ رَفْعَ ذَلِكَ حَتَّى عُزِلَ الْعَامِلُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ رَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ تَقَيَّدَ بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا زَالَتْ الْوِلَايَةُ فَقَدْ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ.

قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَأَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ﷿ وَفِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ امْرَأَتُهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَلَا عَبْدُهُ فَبَانَتْ مِنْهُ أَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ حَنِثَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمِلْكِ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ التَّقْيِيدِ وَهِيَ قَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ مَا دَامَتْ امْرَأَتُهُ يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ﷿ لِأَنَّهُ عَنَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ طُولِبَ بِحَقٍّ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِ مُطَالَبِهِ حَنِثَ بِالْخُرُوجِ، زَالَ ذَلِكَ الْحَقُّ أَوْ لَمْ يَزُلْ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ وَقَدْ أَخَذَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ وَقَدْ نَهَضَ لِذَلِكَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ، أَوْ قَالَ الْمَوْلَى: أَنْتَ حُرٌّ إنْ خَرَجْتَ، أَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلضَّارِبِ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ ضَرَبْتَهُ فَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ ضَرَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْحَالِ، أَوْ الضَّرْبُ فَتَقَيَّدَتْ بِالْحَالِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ فَتَزُولُ الْيَمِينُ بِزَوَالِ الْحَالِفِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ يَمِينِ الْفَوْرِ، وَنَظَائِرُهَا تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِهَا.

[فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْكَلَامِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْكَلَامِ فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا، وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا، أَمَّا الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا أَبَدًا فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا وَلَا يَذْكُرَ الْأَبَدَ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْأَبَدِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، كَلَّمَهُ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَفِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَعَلَى أَيِّ حَالٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ لِيَبْقَى الْكَلَامُ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى الْعَدَمِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بِأَنْ نَوَى يَوْمًا أَوْ وَقْتًا أَوْ بَلَدًا أَوْ مَنْزِلًا لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ﷿ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ بِمَلْفُوظٍ فَلَا يُصَدَّقُ رَأْسًا وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لَمْ يَحْنَثْ؛ بِأَنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي فَلَا يَحْنَثُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي.

كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْيَمِينِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ أَوْ إنْ كَلَّمْتُكِ يَقَعُ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ مَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي وَإِنْ كَانَ كَلَامًا حَقِيقَةً فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُبْتَدَإٍ.

وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاذْهَبِي لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي الطَّلَاقَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ صَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَيَحْنَثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ الَّتِي حَلَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْيَمِينِ كَانَتْ خَاصَّةً؛ بِأَنْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ كَلِّمْ لِي زَيْدًا الْيَوْمَ فِي كَذَا فَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ، يَقَعُ هَذَا عَلَى الْيَوْمِ دُونَ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ ائْتِنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ أَتَيْتُكَ فَهَذَا عَلَى الْيَوْمِ.

وَكَذَا إذَا قَالَ: ائْتِنِي فِي مَنْزِلِي، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْتِيهِ فَهُوَ عَلَى الْمَنْزِلِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَطُلْ الْكَلَامُ بَيْنَ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ، فَإِنْ طَالَ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَبَدِ، فَإِنْ قَالَ: لِمَ لَا تَلْقَنِي فِي الْمَنْزِلِ وَقَدْ أَسَأْتَ فِي تَرْكِكَ لِقَائِي وَقَدْ أَتَيْتُك غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ أَلْقَكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ أَتَاكَ فَهَذَا عَلَى الْأَبَدِ وَعَلَى كُلِّ مَنْزِلٍ؛ لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>